
شمشون ودليلة ، أسطورة القوة والخيانة والعودة الحتميّة ، بقلم : غدير حميدان الزبون
في زمنٍ تتداخل فيه الأسطورة بالواقع، يقف شمشون على حافة الظلال، ذراعاه ممدودتان نحو السماء، وقلبه يئن من غدر دليلة، لكن ما إنْ يتبدّى الغدر، حتى يلمع شعاع الرجاء في عمق روحه، كما يلمع نور الفجر على جبال وطنٍ مغتصب بذاكرة حية، تتنفس عبر الأجيال، وتختبر كلّ قلبٍ ينبض بالوفاء، وكلّ يدٍ تحنّ إلى الأرض الأم.
فالليل هو فجرٌ جديد، وكل سقوط مؤقت هو وعد بالعودة، حتمية لا مهرب منها. وفي هذا السرد، تتجلّى حقيقة واحدة: القوة الحقيقية لا تموت، والانتماء عهدٌ ممتد عبر الزمن، يكتب اسمه في قصص الأبطال الذين لم يعرفوا الاستسلام.
ففي صمت الأساطير يلتقي الخيال بالواقع، ويقف شمشون، ذاك العملاق الذي تحدى البشر والآلهة، رمزًا للقوة الفردية والجماعية، وحاملاً رسالة واضحة، فلا يمكن للقوة الحقيقية أنْ تُمحى، ولا يمكن للوطن أنْ يُهزم نهائيًا طالما أنّ جذوره صلبة.
أصبح شمشون ذاك البطل الأسطوري في القصص المصورة وجها لكل شعب تُسلب إرادته، ويُخدع بالخيانة، ويُختبر في أعماق ذاته.
أمّا دليلة تلك المرأة التي تتقن فن الإغواء والتي كُتبت على لسان التاريخ رمزا للخيانة، فقد أصبحت تجسيدا للتحديات الداخلية التي تواجه كل مجتمع من الفتن، والانقسام، والغدر الذي يسعى لقطع الروابط بين الإنسان ووطنه، وبين الشعب وهويته.
وبين شمشون ودليلة، تتكشف الحقيقة الكبرى: فالقوة المغتصبة ليست ضائعة، والانكسار المؤقت هو مرحلة ضرورية للتحضير للعودة الحتمية.
الوطن، كشمشون، قد تُسلب منه القوة، وقد تتخدعه الأيدي العابثة، لكنه يظل يحتفظ بالجوهر، وبالروح، وبالقدرة على النهوض من جديد.
والوطن الذي يختبره الغدر لا ينهار إلا ليعيد بناء نفسه بشكل أعظم وأكثر قوة، حاملاً إرث التاريخ ومجد الأجداد.
هكذا، تصبح العودة الحتمية حدثا أسطوريا، وفلسفة وطنية، فكلّ غربة، وكلّ ظلم، وكلّ خيانة هي اختبار لإرادة الشعب، وإرادة الوطن في البقاء والعودة.
شمشون لم يسقط لأنّه تعلم الصبر، واستجمع ما تبقى من إرادته ليعيد خلق القوة من جديد، وهنا يكمن الدرس العميق المتمثّل في الانتماء للوطن بالحب، وبالصبر، وبالعزم على استعادة الحقوق، والتشبث بالجذور مهما تعرّضت للغدر والتدمير.
فكل شعب مهما ضعف أو تشتت يمتلك شمشونه الخاص، والذي يعيد له مجده في لحظة الانتصار الحتمية.
ودليلة، كما في كل أسطورة وطنية، ليست فقط عدوًا أو مغرية، وإنما هي اختبار للوعي الجمعي المتمثّل في السؤال:
هل سيظل الشعب غافلًا، أم سيستيقظ ليعيد بناء ذاته ويستعيد وطنه؟
إنّ الغدر والتحديات الداخلية تتحول إلى دعوة لإبداع القوة الجديدة، وللتخطيط الذكي، وللعودة الحتمية التي لا تنقضي.
ففي كل مقاومة، وفي كل أرض مغتصبة، وفي كل قلب محبّ للوطن، تتجسد أسطورة شمشون، فليس المهم أنْ نخسر أرضًا، بل أنْ نعيدها، وليس المهم أنْ يُخدع الإنسان، بل أنْ يعود أكثر يقظة وإبداعًا.
من هنا نرى طريق العودة الحتمية حقيقة فلسفية، فالوطن الذي يُحب ويُصان سيعود، كما تعود الشمس بعد الغروب، وكما يعود النهر ليحتضن الأرض الجافة، وكما يعود الشعب ليعلن مجده من جديد.
والملحمة الكبرى للشعوب لا تقتصر على الحروب وحدها، وإنما تتمثل في صمودها، وفي وعيها، وفي القدرة على تحويل الخيانة والانكسار إلى قوة وإبداع. شمشون ودليلة هما رمزان خالدان لكل وطن مُغتصب: الأول يُذكّر بالقوة التي لا تموت، والثانية تُذكّر بالخطر الذي يختبر الصبر والحكمة، وبينهما تتشكل فلسفة العودة الحتمية، التي تجعل من كلّ سقوط بداية جديدة، ومن كلّ غربة وعدًا بالعودة، ومن كلّ وطن محتمل الضياع أسطورة لا تُمحى.
فالوطن روح تتجسد في كل مقاومة، وفي كل صبر، وفي كل حبّ، وفي كلّ عزم على العودة.
إنّ شمشون ودليلة يعلّماننا أنّ القوة والوفاء والوطنية تجتمع في الإرادة الجماعية،وتُصنع بالصبر، وتُختبر بالخيانة، وتُستعاد بالعودة الحتمية.
والوطن سيعود، كما يجب أنْ يعود، لأنّ العودة الحتمية هي جوهر وجوده، وهي وعد الأساطير الذي يختبر كلّ أجيال البشر.
وهكذا، بعد أنْ تلاشت أصوات المعابد وسقطت أعمدة الغدر، يبقى الوطن حيًّا في القلوب، كالظل الذي لا يفارق الجبال، بنبض لا يتوقف رغم كل الخيانات. فشمشون لم يمُت، بل أصبح روحًا تتجول بين مقاومة وأخرى، وبين صبر وعزم، وبين سقوط وعودة.
ودليلة رغم كلّ إغوائها لم تستطع أنْ تحجب نور الإرادة، ولم تمنع الحلم الكبير من أنْ يولد من جديد؛ لأنّ كلّ شعب يُغدر به سيعود ليحمل قوته وكرامته، ويكتب ملحمته، وستظل الأسطورة حيّة، تهمس في آذان كلّ من يعرف معنى الانتماء والوفاء.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .