11:50 مساءً / 26 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

القرية كمنبع للخيال : ملامح عالم يحيى الطاهر عبد الله القصصي ، بقلم : بلقيس عثامنه

القرية كمنبع للخيال : ملامح عالم يحيى الطاهر عبد الله القصصي

القرية كمنبع للخيال : ملامح عالم يحيى الطاهر عبد الله القصصي ، بقلم : بلقيس عثامنه

“شكل جيل الستينيات، مستجيبًا للتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي شهدها المجتمع المصري، محاولة للخروج على الأطر السائدة، التي وصفها الخراط بـ”الحساسية القديمة”، وتمخض هذا الجيل عن العديد من الأسماء مثل: إبراهيم عبدالمجيد، علاء الديب، أمل دنقل، وغيرهم، غير أن منتج يحيى الطاهر عبدالله شكل وحده تجربة مختلفة لم تحظ بالاهتمام الكافي في حينها، غير أنها صارت محل اهتمام النقاد ربما بعد وفاة الكاتب بسنوات.


فيحيى الطاهر، المحب المتحمس للعقاد، قدم منذ مجموعته الأولى “ثلاث شجيرات كبيرة تثمر برتقالًا” تمردًا على أشكال القص المعتادة، مقدمًا صوته الخاص الذي يمزج بين التشبع بالقرية، بخاصة مع خصوصية قرية الكرنك الموغلة في الابتعاد في عمق جنوب مصر، وبين لغة شاعرية – جعلت الأبنودي نفسه يحمد الله أن يحيى لم يكتب الشعر لأنه “يستمد كتابته من النبع نفسه- صنعت عوالم قصصية متفردة


امتلك يحيى الطاهر عبدالله قدرة جريئة على التجريب، بالرغم من صغر سنه، ليقدم “حكاية على لسان كلب”، و”الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”، اللتين قدم فيهما سردًا يمتزج برؤية فانتازية، تبلغ ذروتها في الأخير.”()
كما أن العالم في قص يحيى الطاهر عبد الله عالم افتراضي لا يبدو خياليًا ولكن عالم يهرب فيه المبدع من العالم الواقعي)( إلى عالم مختلف، حيث يبث رسالته من خلال استخدام الأسطورة، والتراث، والحيوانات كما في قصة “حكاية على لسان كلب” التي تعكس صورة الواقع من خلال عالم افتراضي يستخدم الحيوانات – متأثرًا بكليلة ودمنة – ككائنات لها أصوات وأحاسيس ونظم حياة من خلالها يمكن تصوير الحياة وما يريد أن يوضحه، “وتتأتى فرادة إبداع الطاهر عبد الله، في مزجه غير المسبوق بين الواقعي والخرافي والأسطوري، فقصصه تبدو وكأنها تسير بين الحلم والواقع، وهذه الخرافة بما تحمله من دهشة ومتعة، تخفف من قسوة الواقع الذي ينقله الكاتب.”()


“يحيى الطاهر عبد الله يتنقّل باستمرار بين منطقتي الواقع والغريب. يستنزف الواحد منهما الآخر. فرتابة الواقع لا ينهكها ولا يرهقها إلا الغريب غير المأنوس. وجموح الغريب لا تضبطه إلا قوانين الواقع وسطوته.”() ومن هنا تأتي حكاية على لسان كلب لتمزج الواقع بالخيال، وتنقل واقع المجتمع المصري من خلال علاقة الكلاب، فكل كلب يختلف عن الآخر باختلاف نوعه، ووظيفته، فالكلبة “لولو” تختلف عن “محظوظ” هذا الكلب الذي شرد إخوته لاختياره من زوجة صاحب البيت من بين البقية، ويُشكر صاحب البيت لأنه يطعمهم ويعيشون في بيته لحمايته، في المقابل يحمي صاحب البيت مزرعة رجل آخر، وهكذا تبدأ فلسفة القصة منذ البداية، فيحرس كل واحد ما للآخرين.


وتتعقد المسألة مع انتظار محظوظ ووالديه كلاب الحراسة القوية حتى تنهي طعامها لأكل البقايا، إلا أن هذا الأمر أثار غضب محظوظ فتمرد حتى انتهى الأمر بوالده يعتذر ويوبخه “هاج أبي وماج، وارتجل خطبة قال فيها كلاماً له ثقل الأحجار، كان يتساقط فوق رأسي وأنا منكمش تحت الأشجار:


سيداتي سادتي.. أنا أحييكم برأس محنية.. وأعتذر لكم أيضاً برأس محنية.. في يوم أغبر ولدت شريكة حياتى هذا الكلب الفاسد.. في هذا اليوم بكت السماء فسقط المطر وكفت العصافير عن التغريد وجف في حلوقها النشيد.. ومرت الأيام وكبر الفاسد فقل ماء النهر وقل حجم القمر في السماء… واليوم أفسد الكلب الفاسد متعة الضيوف، وأهان كلاب الأرمنت، وأفزع المحترمة لولو.. ومن اليوم سأرى أنا الكلب الصالح النور ظلاماً والظلام نوراً.. هكذا تختلط الأمور ياسادة.

حين يتطاول مخلوق من مرتبة سفلى على مخلوقات من مرتبة عليا.. ومن اليوم – لا هو ابنى ولا أنا أبوه.. سأطرده ليعيش عيشة الكلاب الضالة.. وسيعلم بعد فوات الأوان. لما تسقط على بدنه عصا الشحاذ – أن انتقام السماء عظيم.. وصدق الذي قال (لا تشتر العبد إلا والعصا معه – إن العبيد لأنجاس مناكيد ) .. والسلام عليكم. صفق الضيوف وصفروا، وهتف بعضهم بحياة أبي، وهتف بعضهم بسقوطي.”() يظهر هذا المقطع الخضوع والخنوع والشعور بالضعف وإهانة النفس الذي يصوره يحيى الطاهر، والذي يعيشه الإنسان نتيجة لشعوره بأنه أقل، ودون الآخرين منزلة وقوة.


انتقل محظوظ إلى المدينة راكضًا خلف محبوبته الكلبة الثرية لولو، تعبيرًا عن غضبه من والده وركضًا خلف الحب، ثم قرر أن يصبح عبدًا في السيرك لسيد؛ ليلتقي لولو على الدوام، وحاول تغيير مظهره، واسمه، وحتى أسلوبه في الحياة، فأصبح ثريًا مشهورًا، وبالتالي يعرض يحيى الطاهر فكرة أخرى، هل يمكن لتغيير المظهر وارتداء ثوب الآخر أن يغيير الجوهر؟ كانت الإجابة في نهاية القصة “الماضي يطاردني (أ) ابني من لولو – له وجهي الكبير وجسم أمه الصغير. شكله المضحك أبكاني وأصابني بأرق جعلني لا أنام – إلا إذا حضر الطبيب ورشق الإبرة في جسمي: ليجري السائل الأصفر في عروقي.


اسم ابنى ( لوز » حرف اللام من لولو.. وحرف الواو من لولو وميزو وحرف از من اسمى أنا ميزو أبوه، لكن الصغير الغبي ينطق اسمه هكذا: يريد أن يذكرني باسمى القديم و محظوظ.. ذلك الأسم الغليظ الوظه .. كأنه على السمع والقلب.


الماضي يطاردني ( ب ) بينما الكوافير يصفف شعرى – أحسست بقرصة في أذني، كتمت الألم ولم أهرش، أجلت هذا الفعل الذي لا يتفق مع الذوق الراقي – حتى أختلى بنفسي، ولما اختليت بنفسي – سمعت الصوت يهمس في أذنى: أنا النملة الحكيمة أم صابرة.. أتيت لأرى ابنتي يا محظوظ، فنبحت في غيظ: أنا ميزو.. وصابرة هناك مع محظوظ ، وهرشت أذنى – وأنا أعوي كذئب: والآن الحقي بهما في نار جهنم أيتها النملة الحكيمة.. وبلغي سلامي إلى صابرة ومحظوظ.
الماضي يطاردني ( ج ) لعقت الدورق الكبير الذي يطفح منه اللبن الدافىء – لتهدأ أعصابي الثائرة،


نظرت إلى المرآة – وأنا أكلم خيالي: قل لى يا خيالي.. خيال من أنت.. خيال من أنت.. خيال ميزو.. أم خيال محظوظ !؟، وقبل أنا يرد دخل الطبيب و ورشق الإبرة في بدني. السائل الأصفر في عروقي وتراجع الماضي. ولما أقبل النوم – وألبسني نظارة سوداء رأيت بها كل شيء يحترق.. كل شيء.. والنار تقترب منى، وأنا لا أتحرك ولا أفعل شيئاً…”() في رسالة إلى أن الإنسان مهما حاول تغيير ماضيه، وما هو عليه سيبقى شيء في داخله، وجزء من جيناته يعيده إلى حيث كان، فلا حال يدوم، ولا ثياب ومظاهر تقوم بتغيير الجوهر.

شاهد أيضاً

الشهيد أسامة كميل

استشهاد الشاب أسامة كميل برصاص الاحتلال في قباطية جنوب جنين

شفا – استشهد مساء اليوم الأربعاء، شاب إثر إصابته برصاص الاحتلال في بلدة قباطية جنوب …