
الشخصية الوطنية بين الفاعل والمتفاعل ، بقلم : محمد علوش
في حياة الشعوب، وفي مسارات التحرر الطويلة، هناك من يصنع الحدث ويصنع التاريخ، وهناك من يكتفي بأن يتفاعل مع ما يحدث دون أن يكون صانعاً، والشخصية الوطنية الحقيقية هي تلك التي تختار أن تكون فاعلة لا متفاعلة، لأنها لا تنتظر الزمن ليقودها، بل تقوده هي، وتحوّل التحديات والآلام إلى فرص حقيقية للناس والوطن، فالفعل هنا ليس مجرد حركة جسدية أو خطابية، بل هو التزام بمسؤولية تاريخية وإنسانية تجاه قضية أكبر من الذات، وقوة قادرة على تحويل الرؤية إلى واقع ملموس.
الفاعل الوطني هو الذي لا يكتفي بالمراقبة، ولا يقف عند حدود الملاحظة أو التعليق، بل يبادر بالمبادرة، ويصنع القرار، ويحمل المسؤولية الكاملة، فهو الذي يعرف أن التاريخ لا يصنع بالانتظار، وأن الشعب لا يحقق مطالبه إلا عبر القيادة الشجاعة والقدرة على المبادرة، والفاعل لا يتردد أمام الصعاب، ولا يختبئ وراء الأعذار، بل يضع المبادئ في قلب العمل اليومي، ويحوّل القيم الوطنية إلى أفعال ملموسة يلمسها الناس، ويشعر بها كل من يشاركهم الطريق.
أما المتفاعل، فهو الذي يكتفي بالردّ على ما يحدث من حوله، ينظر ويحلل وينتقد أحياناً، لكنه لا يترك أثراً حقيقياً على الواقع، والمتفاعل لا يخلق المبادرات، بل ينجرف مع تيار الأحداث، وغالباً ما يضيع بين التفاصيل الصغيرة بينما تهرب منه الصورة الكبرى للتاريخ، ويعيش في إطار الزمن المفروض عليه، بينما الفاعل هو من يصنع الزمن الذي يمضي، ويملأه بالمعنى والقيم والأهداف الوطنية.
وفي السياق الفلسطيني، كان التاريخ مليئاً بالفاعلين الذين تحمّلوا الثمن ورفعوا قضية الشعب رغم كل الضغوط والتحديات، وهم من صنعوا قرارات، وأسسوا مؤسسات، وحركوا الجماهير، وتركوا إرثاً يحترمه الجميع ويستلهمونه، وهؤلاء لم يكتفوا بالحديث عن الوطن أو الانتماء، بل كانوا هم المبادرة التي تحرك الحركة الوطنية، والضوء الذي ينير الطريق للأجيال القادمة، أما المتفاعلون، فتجدهم اليوم في الساحات نفسها، لكن حضورهم محدود، وأثرهم زائل، لأنهم لم يكونوا في صميم صناعة القرار ولم يضيفوا سوى الصوت، لا المبادرة.
إن الفرق بين الفاعل والمتفاعل ليس مسألة مكانة أو مركز، بل مسألة موقف ووعي وإرادة حقيقية، فالفاعل يتعلم من كل حدث، لكنه لا يقيّده؛ والمتفاعل يتأثر بالأحداث لكنه لا يغيّر مسارها، وهكذا، كل مجتمع يحتاج إلى فاعلين، أولئك الذين يحملون الأمل ويصنعون التاريخ ويحولون المبادرة إلى فعل جماعي حقيقي، وهؤلاء هم من يمنحون قضية الشعب الفلسطيني القدرة على الاستمرار، ويحولون الصمود اليومي إلى استراتيجية مستقبلية للبقاء والتحرر، ففي الحالة الفلسطينية، يصبح هذا الفرق أكثر وضوحاً وأهمية، فالوطن يعيش تجربة نضالية مستمرة تحت الاحتلال والظلم، ويعيش تجربة صمود تتطلب من الشخصيات الوطنية أن تكون فاعلة، وأن تصنع الفرص وسط التحديات، وأن تحوّل الانكسارات إلى خطوات نحو البناء والتقدم، والفاعل هو من يضع الأسس للمستقبل رغم الظرف الصعب، والمتفاعل هو من يشاهد الفرص تفلت من بين يديه بينما يضيع الوطن جزءاً من إرادته في تفاصيل لا تغير المسار الكبير.
وفي النهاية، الشخصية الوطنية لتكون فاعلة تحتاج إلى شجاعة القرار، وإدراك المسؤولية، ورؤية واضحة، بحيث تصبح المبادرة جزءاً من ذاتها، والفاعلية جزءاً من رسالتها، والفعل الوطني وحده هو الذي يترك أثراً دائماً في وجدان الشعب، ويبني مستقبله، ويحول الصعاب إلى تاريخ حيّ، بينما التفاعل وحده يترك فراغاً لا يملؤوه سوى أولئك الذين يجرؤون على أن يكونوا فاعلين، فالوطن يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الفاعلين الذين يصنعون التاريخ ويؤكدون أن قضية الشعب ليست مجرد حدث، بل مسؤولية مستمرة، وعمل لا ينتهي إلا بتحقيق العدالة والحرية والاستقلال.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .