
أوساكا.. أضواءٌ على نهر يودو ، بقلم : محمد علوش
كانت أوساكا المدينة الأولى التي احتضنت بدايات رحلتي في اليابان، والمدينة التي عدت إليها بعد أيام من التجوال بين مدن أخرى، كأنها بوابة أدخل منها إلى الدفء الإنساني كلما اتسعت الطرق أو ضاقت، ومنذ اللحظة الأولى، شعرت أنها ليست مدينة تزار مرة وتمضي، بل مدينة تعود إليها لأن قلبك ترك فيها شيئاً يشبه العائلة، فأوساكا تستقبل زائرها كما يستقبل النهر حجراً يسقط فيه برفق؛ تحتضنه وتدوّر حوله الضوء والماء والنبض.
في الأيام الأولى، كان كلّ شيء يلمع حولي، شوارعها التي تتكلّم وتضحك وتتنفّس، وأسواقها التي تحوّل المشي بينها إلى حكاية، ففي سوق كورومون، حيث تختلط أصوات الباعة بألوان الأسماك وفواكه الموسم، تذوقت للمرة الأولى تاكوياكي أوساكا الشهير، ذاك المزيج اللذيذ الذي ينفجر بحرارة النكهة في الفم، وكأن المدينة نفسها تضع يدها على كتفي وتقول: جرّب.. عش.. وتذكّر.
ولم تكن الأسواق وحدها بوابة الدهشة؛ فحين مشيت في شارع تينجينباشي- سوجي، أطول شارع للتسوق في اليابان، والذي يمتدّ كأنه لا ينتهي، شعرت أنّ هذا الشارع ليس مجرد سوق، بل نهراً بشرياً يتدفّق بالحياة، محلاتٌ لا تحصى، ووجوهٌ تبتسم، وروح مدينة تعرف كيف تمزج بين العراقة والحداثة في خطّ واحد لا يهدأ.
أما شبكة القطارات فهي فصل آخر من قصيدة الدهشة اليابانية، فالتنقّل بين المحطات يتمّ بسرعة ودقة تذهل الزائر في البداية، لكنك لا تلبث أن تتعامل معها كأنك واحد من أهل المدينة، حيث كل شيء يتحرك مثل عقارب ساعة لا تتأخر، وكأن الزمن نفسه يتعلّم الانضباط هنا.
ومع ذلك، فإن أكثر ما يدهشك في اليابانيين ليس التكنولوجيا، بل العادات الجميلة التي تحيط بك كل يوم، خلع الأحذية قبل دخول البيوت، وفي بعض المكاتب والمدارس، احتراماً للنظافة والنظام، ولم تكن هذه مجرد عادة، بل رسالة غير منطوقة عن الاحترام والعناية بالفضاء المشترك.
وفي إحدى الجولات، حين رفعت رأسي أتأمّل الطائرات التي كانت تحلّق على ارتفاع منخفض متجهة نحو مطار إيتامي، التفت إليّ صديقي يوشياسو ياماكاوا مازحاً وقد قرأ ما دار في خاطري: لا تقلق.. لن تقصف أوساكا، فابتسمت، لكن كلماته علقت في القلب كسؤال موجع عن المدن التي لا تقصف، وعن تلك التي تترك تحت النار وحيدة.
ومع مرور الأيام، تعمّق شعوري بأن هذه المدينة ليست مجرد محطة سفر، بل حضناً واسعاً للإنسان، وكانت إحدى أكثر اللحظات تأثيراً اللقاء الجماهيري الحاشد الذي نظمته منظمة زينكو – التجمع الوطني للسلام والديمقراطية، حيث تحدّثت عن فلسطين وجرح غزة، وشعرت بالمكان كله يهتز على موجة إنسانية واحدة، ورأيت العيون تلمع تأثراً، والقلوب تقترب، والإنسانية ترفع على أكتاف الجميع، وكانت لحظة حقيقية تنقش مباشرة في القلب.
وفي قلعة أوساكا، حيث الأبراج الحجرية والحدائق القديمة، شعرت أنني أرتحل في طبقات الزمن، فالتاريخ هناك يقف شامخاً مثل شعب يأبى الانكسار، كأن الأسوار تروي شيئاً من صمود الفلسطيني الذي يحمل وطنه في قلبه مهما اشتدت العواصف.
أما دوتونبوري، فقد أخذتني ليلاً إلى بهجة أخرى؛ شارع يشبه احتفالاً دائماً بأضوائه الراقصة ولافتاته الضخمة التي تبث الحياة في العابرين، وهناك التقيت مجدداً بالرفيق ياماكاوا والرفيق موري من زينكو، رفاقاً جعلوا من كل لحظة في المدينة علامة على المحبة والإنسانية.
وفي الليلة الأخيرة، كان اللقاء الختامي الذي جمعني مع كازويوشي ساتو، رئيس حركة الاشتراكية الديمقراطية MDS، وعدد من الرفاق، في أحد المطاعم الصغيرة التي تشبه بيوتهم أكثر مما تشبه مطعماً، تحدّثنا طويلاً عن فلسطين، وعن العالم، وعن الطريق المشترك الذي يمكن أن يبنيه المناضلون أينما كانوا، ومن هناك، انتقلنا معاً إلى لحظة الوداع في محطة القطار، وهي لحظة تشبه فصل الغروب؛ قصيرة، لكنها تترك ظلالها طويلاً في القلب.
وفي الليلة التي مضت، أُقيم لي حفل وداعي في مبنى الحركة الديمقراطية الاشتراكية، حضره لفيف من الرفاق والأصدقاء، وكانت ليلة امتلأت بالضحك والحديث والغناء والبكاء أيضاً.. بكاء يشبه تطهير الروح من أثقال المسافة، غنّينا لفلسطين، وللحرية، وغنّينا النشيد الأممي بقلوب ممتلئة، كأن العالمَ كله يلتئم في تلك القاعة الصغيرة.
وفي النهاية، حين وقفت وحيداً على ضفاف نهر يودو، كانت المدينة تنام ببطء، بينما فلسطين لا تنام لحظة واحدة، كنت أشعر بها تضيء داخلي مثل مصباح لا ينطفئ، حاضرةً في كل موجة صغيرة على النهر، وفي كل نور ينعكس على وجه الماء.
وهكذا بقيت أوساكا مدينةً أعود إليها، لأن شيئاً منها صار جزءاً مني، ولأن فلسطين، حين مشت معي في شوارعها، تركت أثراً من نور لا يغيب.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .