3:31 مساءً / 13 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

مقهى الانشراح: ما بين الشاي بالنعناع وذاكرة المكان ، بقلم : معروف الرفاعي

مقهى الانشراح: ما بين الشاي بالنعناع وذاكرة المكان

مقهى الانشراح: ما بين الشاي بالنعناع وذاكرة المكان ، بقلم : معروف الرفاعي


على زاوية شارع من شوارع رام الله التحتة، يقف مقهى الانشراح بكل هدوئه، شاهدًا على تغيرات الزمان والمكان، يحاكي في جوه طابعًا ثقافيًا غنيًا، وذاكرة تاريخية عميقة. هو أكثر من مجرد مقهى؛ هو مكان ينبض بالحياة والذكريات، يمكن للزائر أن يستنشق في كل رشفة شاي بالنعناع عبق التاريخ، وتاريخ المكان نفسه، والأشخاص الذين مروا من هنا وتركوا بصماتهم على جدران هذا المكان الذي يحتفظ بروح المدينة في تفاصيله الصغيرة.


في مقهى الانشراح، تختلط أصوات الأدباء والشعراء، السياسيين والمثقفين، تمامًا كما تختلط النكهات في كاسة الشاي، يجلس الجميع هنا، من مختلف الانتماءات السياسية والفكرية، لكنهم لا يتخاصمون، بل يتبادلون الآراء والنقاشات بكل احترام. في هذا المكان، لا فرق بين الخلفيات، بل المقهى نفسه هو الذي يجمعهم على قهوة أو شاي، وحين تعلو الأصوات بصدى أم كلثوم أو فريد الأطرش أو أسمهان، تتحول الجلسات إلى احتفالات بسيطة بالحياة، رغم ثقل الحكايات التي يحملها كل واحد منهم.


هذه الجلسات التي قد تبدو عابرة للوهلة الأولى، هي في الواقع شهادة على الصمود الثقافي في وجه التحديات، فمقهى الانشراح كان ولا يزال حلقة وصل بين الماضي والحاضر، حيث يعيد للمكان جزءًا من بريقه الذي كان عليه في أيامه الذهبية، قبل أن تنقض سياسات الاحتلال على المدينة وتحاصر أهلها، فتجبرهم على الرحيل والتغرب، وها هي ذاكرة المكان، التي لا تغيب عن قلوب من رحلوا، تظل حية في كل زاوية من تلك الجدران التي اختزنت حكايات الغياب والحنين.


رام الله التحتة، بمبانيها القديمة التي لا تزال تحتفظ بعبق الماضي، هي مدينة الحكايات والمطاعم التقليدية والأسواق المزدحمة، لكن المقاهي، مثل مقهى الانشراح، هي من تحمل نكهة خاصة، فعندما يتجول الأجانب هنا، يبحثون عن المباني التاريخية التي قامت بلدية رام الله بترميم جزء منها، ويتوقفون أمامها بإعجاب، لكن في تلك اللحظات، يظل الجزء المتبقي غير مرمم في انتظار “الغائبين”، ينتظر أن يعودوا إلى أرضهم ومقاهيهم، إلى تاريخهم الذي لا يزال موجودًا بين الجدران، في الأصوات التي تملأ الفضاء، وفي الروايات التي لا تنتهي.


كانت رام الله، ذات يوم، مقصد العشاق، حيث جلس الأحباء على المقاهي وتبادلوا الهمسات وسط أزقتها الضيقة. أما اليوم، فقد أصبحت المقصد الأول للصحفيين والسياسيين ووكالات الأنباء، الذين يأتون بحثًا عن الحكايات، عن القصص التي تعيش في ذاكرة المكان. ولكن بالرغم من التحولات التي شهدتها المدينة، تظل روائح الشاي بالنعناع في مقهى الانشراح تفوح بعطر الماضي، ويظل المقهي نافذة للعشق، ولكن من نوع آخر: عشقٌ للمدينة، لثقافتها، ولتاريخها الذي لا يمكن أن يزول، مهما مرّ الزمان.


رام الله، التي ظن البعض أنها قد تغيرت، لا تزال تقاوم التغيرات، مقهى الانشراح، ذلك المكان الذي يبدو كأنه يحاكي مدينة باريس في طابعها، لكن بنكهة شرقية أصيلة، يبقى كما هو، قلب ينبض بالثقافة والحياة، بكل تفصيل فيه.


إلى أولئك الذين يعبرون شوارع رام الله التحتة ويجلسون على طاولات المقهى، يظل الانشراح مصدر إلهام ونقاش، يظل الملاذ للذاكرة التي لا تذبل أبدًا، تلك الذاكرة التي تكافح أن تبقى حية في وجه كل محاولات محوها، ففي كل كوب شاي بالنعناع، وفي كل كلمة تتردد بين الجدران، ما زالت روح المكان حية، ما زال الانشراح حاضرًا في أذهان من يعرفون قدره، وحسّه الإنساني الفريد.

شاهد أيضاً

الجبهة العربية الفلسطينية

الجبهة العربية الفلسطينية : ترحب بقرار اللجنة الثانية للجمعية العامة للأمم المتحدة

وتدعو الى تحويل القرارات الاممية إلى أداة فعل سياسية وقانونية شفا – ترحب الجبهة العربية …