5:33 مساءً / 10 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

بين السيطرة والعربدة: كيف تدار الضفة الغربية اليوم ، بقلم : سالي ابو عياش

بين السيطرة والعربدة: كيف تدار الضفة الغربية اليوم

بين السيطرة والعربدة: كيف تدار الضفة الغربية اليوم ، بقلم : سالي ابو عياش


لم تعد الضفة الغربية مجرّد جغرافيا محتلة تُدار بجيش وبندقية، بل تحوّلت إلى مختبر مفتوح لأساليب السيطرة الإسرائيلية الحديثة، حيث تتداخل سلطة الجندي مع عربدة المستوطن، ويتلاشى الحدّ بين القانون والفوضى. فمنذ سنوات، تشهد الضفة إعادة إنتاج ممنهجة لشكل الاحتلال؛ لم يعد الحاكم هو الضابط العسكري في المعسكرات فقط، بل أصبح أيضاً المستوطن الجالس على التلة، يطلّ على القرى الفلسطينية ويمارس سلطته اليومية من فوقها.


تلالٌ تتكاثر، ومستعمرات تتمدد، وحواجز تتبدّل مواقعها كأنها صمّمت لشلّ حركة الناس قبل أن تضبط أمن الاحتلال.

وفي ظل هذا المشهد، تتقلص سلطة السلطة الفلسطينية، وتتحول مدن الضفة إلى جزر محاصرة بين مناطق “سيطرة” إسرائيلية و”عربدة” مستوطنين لا يُحاسَبون، لتُدار حياة الفلسطيني من أعلى، بينما يُترك ليتدبّر بقاءه في الأسفل.
من الذي يدير الضفة فعلياً؟


منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، انقسمت الضفة الغربية على الورق إلى مناطق (C، B، A)، لكنّ الواقع الميداني تجاوز كل تلك التصنيفات. فالجيش الإسرائيلي بقي الحاكم الحقيقي والمطلق، يقرر من يدخل ومن يخرج، من يُبنى له بيت ومن يُهدم عليه بيته.


لتتحوّل السلطة الفلسطينية مع الوقت إلى إدارة مدنية محدودة الصلاحيات، تمارس بعض الوظائف الخدمية في المدن الكبرى، لكنها لا تملك أي سيادة أمنية أو جغرافية.


في المقابل، صعد المستوطن الإسرائيلي ليصبح طرفاً حاكماً غير معلن، يمارس سلطة يومية على الأرض بدعم رسمي من الحكومة والجيش. فالجيش يوفّر الغطاء العسكري، والإدارة المدنية تشرعن المصادرة، والمحاكم الإسرائيلية تؤجل أو تبرر كل جريمة استيطان.


وهكذا، تذوب الحدود بين الاحتلال الرسمي والعنف الشعبي الاستيطاني، لتُدار الضفة فعلياً من خلال منظومة مركّبة من السيطرة العسكرية والعربدة الاستيطانية، حيث يحتكر الجيش القرار، ويمارس المستوطن التنفيذ.


التلال كمراكز تحكم:


من يقف على تلال الضفة الغربية يدرك المعنى الحرفي لكلمة التحكم من الأعلى، فالتلال ليست مجرد تضاريس طبيعية، بل أصبحت أدوات استراتيجية في يد الاحتلال.

منذ السبعينيات، تبنّت إسرائيل سياسة استيطان قائمة على التمركز فوق المرتفعات، بحيث يمكن مراقبة كل قرية وشارع ووادي. اليوم، تشكّل هذه التلال شبكة مترابطة من المستوطنات العسكرية والمدنية التي تتحكم بالضفة جغرافياً وأمنياً واقتصادياً.


تُعدّ المستوطنات الإسرائيلية الكبرى مثل “أرئيل” و”معاليه أدوميم” في شمال الضفة الغربية، وجفعات زئيف” في وسطها، و”كريات أربع” و”غوش عصيون” في جنوبها، من أبرز أدوات المشروع الاستيطاني الإسرائيلي الرامي إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية. إذ تنتشر هذه المستوطنات في صورة أحزمة استيطانية تحيط بالمدن الفلسطينية، بما يؤدي إلى تفتيت الامتداد الجغرافي الفلسطيني، وقطع التواصل المكاني بين مكونات الضفة الغربية.


أما التلال الصغيرة، فتُقام فوقها كرفانات مؤقتة تتحول لاحقاً إلى بؤر استيطانية دائمة.


هذه الكرفانات هي النسخة الميدانية الأولى من التوسع الاستيطاني: يبدأ الأمر ببيت متنقل واحد، ثم طريق ترابي، ثم سياج وكاميرا، وفي النهاية مستوطنة جديدة تلتهم الوادي المقابل.


بهذا الشكل، تُدار الضفة من القمم إلى السفوح، من فوق إلى تحت — احتلال رأسي يُخضع الأرض والناس معاً.


عربدة المستوطنين وحُرّاس التلال:


في السنوات الأخيرة، لم يعد الجيش وحده أداة السيطرة، بل تشكلت ميليشيات استيطانية تحمل أسماء مثل”فتية التلال” و”حراس المستوطنات”، تعمل وفق منطق العصابات، وتحت غطاء سياسي من الحكومة اليمينية المتطرفة، يهاجم هؤلاء القرى الفلسطينية، يحرقون البيوت والسيارات، ويعتدون على المزارعين وأراضيهم ففي موسم الزيتون على سبيل المثال تحوّل من موسم فرح إلى موسم، فكل خريف، تتكرّر المشاهد: فلاحون يقطفون الزيتون تحت نظر الجنود، بينما يهاجمهم المستوطنون بالحجارة والعصي وأحياناً الرصاص ويقطعون الأشجار ويحرقونها دون حساب.


لم تعد هذه الهجمات استثناء، بل جزءاً من سياسة تخويف ممنهجة تهدف إلى تهجير القرويين من أراضيهم، وإفراغ التلال لتوسيع المستوطنات. وفي المقابل، لا تُفتح أي تحقيقات، ولا يُحاسب أي معتدٍ.

بل على العكس، تُكافأ البؤر التي ينطلق منها العنف بتوصيل الكهرباء والمياه والطرق المعبّدة.


هكذا تحوّلت التلال إلى مراكز عربدة منظمة، فيها المستوطن هو الحاكم الميداني، والجيش هو الغطاء القانوني، والحكومة هي الشرعية السياسية.


أما الفلسطيني، فليس أمامه إلا أن يراقب أرضه تُسلب أمام عينيه، دون أن يُسمح له حتى بالاحتجاج.


بناء الكرفانات ونهب الأرض:


يُبنى اليوم في الضفة عشرات الكرفانات أسبوعياً في مناطق مصنفة” “C، حيث يمنع على الفلسطيني البناء أو الترميم، يصل المستوطن ليلاً، ينصب كرفانا، ويستيقظ الفلسطيني ليجد أرضه قد صودرت ليقوم الجيش بحماية المبنى غير القانوني، والإدارة المدنية تؤجل الإخلاء، ومع مرور الوقت يصبح الأمر واقعًا ميدانياً تُشرعنه المحاكم.


بهذا الشكل، يجري نهب الأرض بالتقسيط البطيء: كرفان اليوم، طريق غدا، ثم مستوطنة كاملة بعد عام.والأخطر أن بعض هذه البؤر باتت مرتبطة مباشرة بشبكات تمويل من وزارات إسرائيلية، وبحماية وحدات مسلحة من “حراس المستوطنات”، الذين يتلقون تدريبات رسمية على السلاح ويُمنحون صلاحيات أمنية داخل المناطق الفلسطينية.


أي أن الاحتلال لم يعد فقط جيشاً على الأرض، بل أصبح منظومة ميدانية هجينة: فيها العسكري والشرطي والمستوطن، كلهم يخدمون هدفاً واحداً إحكام السيطرة ومنع أي حضور فلسطيني مستقبلي على الأرض.


النتيجة أن الضفة الغربية تُدار اليوم وفق نظام مزدوج: جيش يحتفظ بالسيادة الشكلية، وميليشيات مستوطنين تمسك بالسيطرة الفعلية على الأرض، هي فوضى منظّمة، مصممة بدقة لتدمير أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متماسكة أو حتى سلطة مدنية مستقلة.


فبينما يواصل العالم الحديث عن “حل الدولتين” كأمنية بعيدة، تعمل إسرائيل على خلق واقع ميداني يجعل من هذا الحل مستحيلاً.

فبدل الدولة الفلسطينية، تُقام على الأرض شبكة من المستوطنات والقواعد العسكرية والطرق الالتفافية، تشطر الضفة إلى كانتونات معزولة، وتمنح المستوطنين سلطة شبه مطلقة على الفضاء الفلسطيني.


تُساق الضفة اليوم نحو نموذج “السيطرة اللامركزية: عشرات البؤر الصغيرة، كل واحدة يقودها زعيم محلي من “فتية التلال” أو “الحاخامات المسلحين”، تتحكم بمحيطها، وتفرض منطقها، لتتشكل في النهاية خريطة استعمارية فوضوية لكنها خاضعة تماماً للمنظومة الإسرائيلية المركزية.


بهذا الشكل، لم تعد إسرائيل بحاجة لإدارة مباشرة لكل قرية ومدينة، فالمستوطنون يقومون بالمهمة بدلاً عنها باندفاع أيديولوجي ورغبة انتقامية.


في ظل هذا الواقع، تبدو الضفة الغربية وكأنها تسير نحو انهيار داخلي بطيء.
فالمشهد اليوم ليس فقط احتلالا، بل إعادة هندسة شاملة للجغرافيا والسيادة.


من التلال تُدار السياسة، ومن الطرق تُفرض المعازل، ومن المستوطنات تُصنع الحقائق الجديدة.
حتى الحقول والينابيع لم تسلم من منطق السيطرة؛ فالمياه تُسرق، والطرق تُقيد، والأشجار تُقتل.
لكن وسط هذا الخراب، يبقى الفلسطيني متمسكاً بزيتونته كوثيقة هوية، وبوجوده كفعل مقاومة يومي مجهول المستقبل والمصير.

شاهد أيضاً

بحضور د. مجدلاني وسفير الصين جمعية تطوع للأمل الخيرية تطلق مشروع رواد الغد

بحضور د. مجدلاني وسفير الصين جمعية تطوع للأمل الخيرية تطلق مشروع رواد الغد

سيلفيا أبو لبن : نُشعل شعلة الأمل والطموح والفرص أمام جيلٍ جديد من الشباب لتمكينهم …