عِناقُ الشَّجَرَةِ – حينَ يَحتَضِنُ الوَطَنُ أبنَاءَهُ بالعِشقِ والحنين ، لوحةُ الفنّان محمد دغليس ، كلماتُ : د. وليد العريض

عِناقُ الشَّجَرَةِ – حينَ يَحتَضِنُ الوَطَنُ أبنَاءَهُ بالعِشقِ والحنين ، لوحةُ الفنّان محمد دغليس ، كلماتُ : د. وليد العريض

عزيزة تحت الشجرة

بدايتُنا

في البدءِ كانتِ الشجرةُ أمًّا وأيقونةً، تُرضِعُ الأرضَ من لبنِ الحنين وتُخبّئ في ظلِّها ذاكرةَ الذين مرّوا إليها عائدين من التيه.

تحتَها تنبضُ المرأةُ الفلسطينيةُ بثوبِها المطرَّزِ من خيوطِ الشمسِ والدمع، تحيكُ للريحِ أغنيةً وللوطنِ صلاةً.
اقتربَ منها العاشقُ القرويّ بخطواتٍ مبلّلةٍ بالحنين يحملُ في عينيه وجعَ الانتظار وفي قلبه نداءَ القرى البعيدة
كأنّهُ طائرٌ رجعَ من الغيابِ ليُعيدَ للغصنِ دفءَ جناحه.

هناكَ… عندَ جذعِ الزيتونةِ، تلامسَتْ الأيد،
فانبعثَ العشقُ من عِرقِ الترابِ وتوهّجَتِ اللوحةُ بلونِ اللقاء.

قصيدتُنا:
قالَت الطبيعةُ: ها هما يعودان إلى رحمِي،
فأحنَتِ الشجرةُ أغصانَها عليهما كأمٍّ تُباركُ طفلَيها.
لم يكن العناقُ جسدًا على جسد، بل روحٌ على وطن
وميلاً يتوحّدُ فيه الترابُ والهواءُ والدمُ والندى.
همسَتْ له بصوتٍ يشبهُ الموشّحاتِ القديمة:

يا نَسمةَ الوادي يا نُورَ العيونْ
مَنْ شافَكْ قالْ: رجعَ الزيتونْ.

ابتسمتْ عزيزةُ، فارتجفَ الضوءُ على خيوطِ ثوبِها،
وقالَ هو:
يا وردةَ السهلْ يا نغمةَ الرّيحْ
بْحُبِّكْ نِغنّي وننسى الجريحْ.

كانا كعِصفورَينِ على غصنٍ واحدٍ،
كلُّ نظرةٍ بينهما وعدٌ، وكلُّ أنفاسِهما دعاء.
والأرضُ من تحتهما كانتْ تُصلّي بصمتٍ،
تُمرّرُ جذورَها في العروقِ كي لا ينقطعَ الحنين.
وحينَ انحنى الجذعُ عليهما كشيخٍ يباركُ الحُبَّ،
عرفا أنَّ الوطنَ لا يُقبَّلُ بالشعارات،
بل يُحتضَنُ بالعشقِ، وتُروى جذورُهُ بالدمعِ والدَّم.

خاتمتُنا
وحينَ خفَتَ الضوءُ في اللوحةِ وبقيَ الصدى،
بقيَ العناقُ يتهامسُ بينَ الأغصانِ كآيةٍ من سفرِ الوجود.
الفنُّ عندَ محمد دغليس ليسَ ألوانًا تُسكبُ،
بل أنفاسُ عاشقٍ يرسمُ الوطنَ بدمهِ وعِشقِه.
كلُّ ظلٍّ في لوحتهِ حكايةُ عودة،
وكلُّ لونٍ فيها صلاةٌ تُرفَعُ على محرابِ التراب.
وفي عيني عزيزة يتجلّى الوطنُ كأنّهُ الحبيبُ ذاته:
وجهُهُ الحنين وصدرُهُ الشجرة ودمُهُ المطر.

إنّهُ العناقُ الذي لا ينتهي
حينَ يُصبحُ الحبُّ طقسًا وطنيًّا
والوطنُ معبدًا للعاشقين
وعزيزةُ… رمزًا لأنثى الأرض،
تُغنّي للسماء:

يا أرضي يا أمّي يا نغمةَ المدى
حُبُّكْ عليَّ صلاةُ الهدى.

عَزيزةُ تحتَ الشَّجَرَةِ

تَحتَ الشَّجَرَةِ الخَضراءِ لاحَتْ عَزيزةُ
تَنسابُ كالحُلمِ النَّديِّ عَفيفةُ

فَستانُها نَغمُ الحُقولِ وسِحرُها
يَروي التُّرابَ وَفي العُيونِ طَفيفةُ

مَدَّتْ يَدَيْها للجُذوعِ فَأَورَقَتْ
أَغصانُها وَتَراقَصَتْ قَطَفيفةُ

وَتَدافَعَتْ نَسَماتُها مُتَمايلةً
في شَعرِها وَالماءِ فيهِ رَجيفةُ

ناداها الفَتى: يا نَغمةَ السَّهلِ الَّذي
يُهدي المَدى عِطرًا وَفيكِ خَليفَةُ

قالَتْ لَهُ: مَهلًا فَفيكَ عِبادةٌ
تَسري كَنَهرٍ رِقَّةً وَلَطيفةُ

قالَ: اصبِري فَالعِشقُ صَومُ مُتيَّمٍ
يَصحو إذا صَلَّى لِعَينِكَ حَيفَةُ

ضَمَّ الجُذوعَ يَدَيهِما فَتَناثَرَتْ
زَيتونَةٌ خَجلى وَفاحَ خَريفَةُ

يا أَرضُ يا نَفسَ العُيونِ تَذكَّري
أنّي لِحُبِّكِ قُربَكِ مَعرِفَةُ

رأَيتُ فيكِ اللهَ يَسكُنُ مُهجَتي
وَيُعيدُ في رُوحِي الحَياةَ رَفيفَةُ