
تنهيدة حرية… رواية تُعيد كتابة الوجع الفلسطيني بأنفاس النساء ، بقلم : رانية مرجية
حين تفتح رواية «تنهيدة حرية» للكاتبة الفلسطينية رولا خالد غانم، تشعر أنك لا تقرأ نصًا، بل تتنفس حكاية الوطن.
هذه ليست رواية عن فلسطين فقط، بل عن المرأة الفلسطينية وهي تكتب الوطن من لحمها وذاكرتها، عن الجدة التي تهجّرت من يافا ولم تُغلق الباب، عن الابنة التي تحمل المفتاح في حقيبتها، وعن الحفيدة التي تكتب كي لا يضيع البيت في الزحام.
بين السرد والذاكرة: كتابة لا تُهادن النسيان
رولا غانم لا تُقدّم رواية تقليدية ذات حبكة متسلسلة، بل نصًّا حلزونيًا يلتفّ حول نفسه كما تلتفّ الأجيال الفلسطينية حول حكاياتها.
من سلمى إلى بتول إلى حفيدتها، يمتد الخيط السردي كأنّه سلسلة وراثية من الحنين والتهجير والبحث عن المعنى.
كلّ صوتٍ نسائي فيها يحمل ذاكرة المكان: البيوت، القهوة، البحر، المفاتيح، والملابس التي تفوح منها رائحة الغربة.
في هذه البنية المتشابكة، تُعيد غانم تعريف الزمن الفلسطيني: ليس زمنًا خطيًا يبدأ بالنكبة وينتهي بالحاضر، بل زمن دائري، تعود فيه المأساة بثوبٍ جديدٍ كلّ جيل، وكأنّ التاريخ يختبر صبر النساء أكثر من الرجال.
لغة من رحيق الألم
اللغة في «تنهيدة حرية» لا تصرخ، بل تتنهّد.
جُملها قصيرة، كأنها تقطع النفس عمداً لتذكّرنا أن الحكاية تُروى من صدرٍ ضاق بالوجع.
في وصفها لليل المنفى، لا تقول «ظلام» بل تقول: «ليلٌ يشبه ذاكرة أمٍّ تنتظر أبناءها».
هكذا تُنقذ اللغة من الخطابة وتحوّلها إلى مساحة نجاة.
رولا غانم تمتلك ما قلّ لدى كاتبات جيلها: قدرة على تحويل الألم إلى جمال دون أن تُخفي قسوته.
لا تتجمّل المأساة في نصها، لكنها أيضًا لا تُستدرّ الدموع. هي رواية توازن بين العاطفة والوعي، بين الحنين والتمرد، بين الوطن كذاكرة والوطن كجرح.
نساء يكتبن الوطن
في الرواية، تتحوّل المرأة من رمز للوطن إلى فاعلٍ يُعيد إنتاجه.
سلمى لا تكتفي بالبكاء على يافا؛ بل تزرع شجرة في عمّان كي «تُقنع الحنين أن للغربة جذورًا».
بتول لا تنكسر أمام التهجير، بل تحوّله إلى حكاية تحفظها عن ظهر قلب، وتلقّنها لحفيدتها كأنها نشيدٌ سرّي.
أما الحفيدة فتمسك بالقلم لتكتب الرواية نفسها، في حركةٍ فنيةٍ ذكية تجعل الحكاية تلد ذاتها من جديد.
بهذا، تقدّم غانم نموذجًا نادرًا في الأدب الفلسطيني:
أنوثة مقاومة لا عبر الخطابة، بل عبر الفعل السردي.
فالمرأة هنا لا تنتظر الخلاص من الخارج، بل تُمارس الحرية بالكتابة والتذكر.
وطن من الحكايات الصغيرة
«تنهيدة حرية» تُبرهن أن الرواية الوطنية لا تحتاج البندقية ولا البيانات،
بل تكفيها فنجان قهوةٍ تُعدّه الجدة، وصورةٌ قديمة، وتنهيدة.
هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تُبقي الوطن حيًا حين يغيب في الأخبار.
غانم تكتب عن فلسطين اليومية: عن النساء اللواتي يخبزن الخبز على الرماد، عن الأطفال الذين يرسمون علمًا على الجدار، عن الأسرى الذين يكتبون رسائلهم على ورق السجائر.
إنها رواية الناس العاديين الذين يصنعون التاريخ من دون أن يعلموا،
ورواية النساء اللواتي يقفن في الهامش ليحملن النص كله على أكتافهن.
بين الواقعية والرمز
الكاتبة تمزج بين الواقعي والرمزي بدقّة لافتة:
فالقهوة تصبح ذاكرة، والمفتاح يتحوّل من رمز العودة إلى وصية شخصية،
والبحر يُطلّ كحلمٍ مستحيلٍ بالوطن البعيد.
هذه الرموز لا تُثقِل النص، بل تمنحه عُمقًا صامتًا يجعل القارئ يعيش التجربة بدل أن يقرؤها فقط.
أثر الرواية وسبب تميّزها
رواية «تنهيدة حرية» وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية،
وهي إنجاز مستحقّ؛ لأنها تُقدّم صوتًا أنثويًا فلسطينيًا نادرًا في السرد العربي المعاصر.
كما أدرجت ضمن منهاج الأدب الحديث في جامعة عين شمس المصرية، اعترافًا بقيمتها الفنية والإنسانية.
لكن نجاحها الحقيقي لا يُقاس بالجوائز، بل بما تفعله في القارئ بعد أن يُغلق الكتاب:
تتركك الرواية تُفكّر في معنى الوطن،
في ثقل الحكاية،
وفي صبر النساء اللواتي يُبقين الذاكرة مشتعلة في زمن النسيان.
كلمة أخيرة
كتبت رولا غانم رواية لا تُشبه أحدًا، لأنها كتبت بصدق من عاش الوجع لا من وصفه.
وهي بذلك تُضيف إلى الأدب الفلسطيني صوتًا ناعمًا في نبرته، عميقًا في أثره، عنيدًا في إيمانه بالحرية.
قد تُغلق الرواية على تنهيدة، لكن القارئ يخرج منها وهو يقول:
الحرية ليست وعدًا في نهاية الطريق،
الحرية أن نملك الحكاية، ولو على الورق.
مراجع ومصادر معلومات:
• موقع الأيّام نيوز – «رولا غانم وروايتها تنهيدة حرية: الصوت الأنثوي الوحيد في القائمة القصيرة لكتارا»
• الدستور المصرية – تقرير حول صدور الرواية
• شبكة العودة الإخبارية – «تنهيدة حرية ضمن منهاج جامعة عين شمس»
• شبكة شفا الإخبارية – «رولا غانم تصدر روايتها السادسة في ظل الحرب والمحن»
• مقابلة الكاتبة على قناة الفجر الجديد – 2025
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .