10:24 مساءً / 22 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

ظلّ الممر الأبيض ، بقلم : رانية مرجية

ظلّ الممر الأبيض ، بقلم : رانية مرجية

في المدينة التي لا تعرف الفجر، حيث تتساوى الألوان وتذوب الأصوات، قامت مؤسسة تُدعى البيت الأبيض للعقل.

مبنى ضخم ككائنٍ يتنفس الصمت، نوافذه مغلقة دائمًا، وجدرانه مشبعة برائحة المطهرات والخوف.

كان الناس يهمسون عنه كأنه كابوسٌ مستتر تحت عباءة الرحمة.

كانت إيلارا ممرضة شابة، جاءت تحمل أحلامًا صغيرة وقلبًا مثقوبًا بالأسئلة.

أرادت أن تشفي الآخرين علّها تشفي نفسها، لكنها لم تكن تعرف أن الأماكن التي تكثر فيها الأقنعة تلتهم الأرواح أولًا.

في الأسبوع الأول، بكت أمام مريضٍ لا يتذكر اسمه.

في الشهر الأول، توقفت عن البكاء.

وفي العام الأول، صارت تعرف كم يساوي الألم حين يُباع في السوق السوداء.

كانت تسرق الأدوية التي تُهدئ العقول، وتبيعها للذين أرادوا أن ينسوا عقولهم تمامًا.

كانت تقول في نفسها:

“أنا لا أسرق، أنا أوازن الفوضى.”

لكنها كانت تعرف الحقيقة — لم تكن توازن شيئًا، كانت تسقط ببطء في هاويةٍ أنيقة.

التحوّل

كانت تجيد الازدواجية كما تجيد تنفس الهواء.

وجهٌ طاهر في الصباح، وعقلٌ ملوث في الليل.

تواطأت مع الصمت، وتعلمت كيف تخدع الجميع بنبرة الرحمة.

تواعد الأطباء، وتغوي المرضى، وتستنزف جيوبهم كما تُفرغ القارورة الأخيرة من المهدّئ.

وحين اكتشف أحدهم حقيقتها، لم تخف، بل ابتسمت.

قال لها الطبيب المرتجف: “أنتِ مرضٌ في ثوب ممرضة.”

فأجابته بابتسامةٍ باردة:

“وأنتم دواءٌ بلا روح.”

في اليوم التالي، رحل الطبيب.

لم يسأل عنه أحد.

بيت الزجاج

حين طُردت من العمل، خرجت كما يخرج المذنب من معبدٍ لا يؤمن به.

ظن الجميع أنها انتهت، لكنها كانت في الحقيقة قد بدأت.

انتقلت إلى مؤسسةٍ جديدة، اسمها “بيت الزجاج” — المكان الذي يُرى فيه كل شيء إلا الحقيقة.

هناك، التقت المدير الجديد — رجلٌ لا يرفع صوته، ولا يرفع نظره، كأن قلبه قد أُطفئ منذ زمن.

قال لها في أول لقاء:

“في هذا المكان، لا نُشفي أحدًا، نحن فقط نُبقيهم صامتين.”

أحبّته كما يُحب الظلامُ من يخاف النور.

ومقابل أن تظلّ حرة، باعت جسدها وضميرها له.

صارت تتحكم في الجداول، في العلاجات، في مصائر المرضى.

كانت ترى في أعينهم رجاءً لم تعد تفهمه، كأن الرحمة أصبحت لغةً أجنبية لا تتقنها.

ومع كل سلطةٍ جديدة، كانت تخسر شيئًا من ملامحها.

صار وجهها في المرآة بلا لون، بلا حدود، كأنها تذوب في نفسها.

الطيف الأخير

في ليلةٍ بلا قمر، انقطع التيار الكهربائي عن بيت الزجاج.

غرق المكان في ظلامٍ خانق إلا من ضوءٍ خافتٍ في آخر الممر الأبيض — الممر ذاته الذي كان يربط أقسام المرضى، والذي كانت تتجنبه دومًا.

مشَت نحوه، يسمع الحراس بعد ذلك أنين كعبَيها على الأرض الباردة، كأن الزمن نفسه يتراجع.

كانت الجدران تنبض بأصواتٍ كثيرة، أصوات أولئك الذين سلبتهم دواءهم، وكرامتهم، وثقتهم.

توقفت أمام المرآة الكبيرة في نهاية الممر.

رأت وجهها، لكن لم يكن وجهها — كان وجوه المرضى جميعًا، تنظر إليها بعينٍ واحدة، كأنها عين العدالة.

صرخت.

المرآة لم تنكسر.

بل ابتلعتها.

النهاية (التي لا تنتهي)

في الصباح، وُجدت زجاجة دواءٍ فارغة على الأرض، مكتوب عليها بخطٍ باهت:

“الرحمة لا تُباع.”

منذ ذلك اليوم، يقول العاملون الجدد إنهم يسمعون عند منتصف الليل صوت خطواتٍ ناعمة في الممر الأبيض،

وصوت امرأةٍ تهمس بلطفٍ غامض:

“خذوا الدواء… لكن لا تتركوا الرحمة تموت.”

ويؤكد الحراس أن المكان كله يبرد حين تمرّ تلك الخطوات،

كأن ظلّ إيلارا ما زال يبحث عن خلاصٍ لم يعد له طريق.

شاهد أيضاً

برلمانيون أوروبيون يطالبون بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل

برلمانيون أوروبيون يطالبون بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل

شفا – طالب برلمانيون أوروبيون، اليوم الأربعاء، الاتحاد الأوروبي بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل التي …