7:40 مساءً / 18 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

قراءة في نص الكاتبة رانية مرجية “عرّابة… حين استيقظت النار فينا”: بقلم : الدكتور عادل جودة

قراءة في نص الكاتبة رانية مرجية “عرّابة… حين استيقظت النار فينا”: بقلم : الدكتور عادل جودة

استعارة النار وتأويل الوجود

لا يمكن لقارئ نص “عرّابة… حين استيقظت النار فينا” إلا أن يستسلم لسلطة اللغة وهي تشتبك مع الذاكرة لتخلق عالماً شعرياً مكتملاً.


فالنص لا يروي زيارة، بل يكتب أسطورة حميمة للانتماء، حيث تتحول القرية إلى كائن حي ينزاح عن جغرافيته ليعود حاراً في وجدان الكاتبة.

الانزياح الأول يتمثل في قلب العلاقة بين الزائر والمكان، فالكاتبة لم تزر عرّابة، بل “عادت هي إليّ”.
هذا الانزياح البلاغي ليس مجرد تلاعب لغوي، بل هو بيان فلسفي يؤكد أن الأماكن الحقيقية لا تُزار، بل تُولد فينا، وتستيقظ كذاكرة أولى تعرف طريقها إلى القلب دون استئذان.

استعارة النار تشكل العمود الفقري للنص، فهي تتحول من عنصر فيزيائي إلى استعارة كونية للحياة والذاورة والمقاومة.


النار هنا ليست ناراً تأكل، بل ناراً تُنير، وليست لهباً يحرق، بل دفءً يحتضن.


حين تقول منال: “النار تعرف من لا يخافها”، فهي تقدم فلسفة وجودية تجعل من المواجهة شرطاً للانعتاق.

المشهد المحوري في النص – احتراق الخبز وضحك النساء – يحمل دلالة مزدوجة. فمن جهة، هو تأكيد على أن الحياة تستمر رغم الاحتراق، ومن جهة أخرى، هو تصوير للجمال الذي يولد من رحم الألم. الخبز المحترق يصبح “أكثر صدقاً”، كما يصير الإنسان “أكثر جمالاً بعد الجرح”.

الحوار الشعري بين الكاتبة ومنال يتحول إلى حكمة متوارثة تنتقل من جيل إلى جيل. كلمات منال:
“نحن لا نحترق لتفنى، بل لنضيء ما لا يُرى” تختزل فلسفة مقاومة تجعل من المعاناة مصدراً للقوة، ومن الألم منبعاً للجمال.

الانزياح الأكثر عمقاً يتمثل في تحويل التجربة الشخصية إلى أسطورة جماعية. فلهب المدفأة لا يضيء الغرفة فقط، بل يضيء “نساء الجليل جميعاً” اللواتي “يخبزن وجعهن على نار واحدة”. النار هنا تصبح رمزاً للذاورة الجماعية، وللقوة المتوارثة التي تنتقل من امرأة إلى أخرى.

في الختام..تتحول الكاتبة من زائرة إلى جزء من هذه الأسطورة، فتصبح “امرأة من لهب تعرف أن الاحتراق طريق الخلاص”.


النص لا ينتهي عند آخر كلمة، بل يستمر كلهب لا ينطفئ، يذكرنا بأن بعض الأماكن لا تُزار بالجسد فقط، بل تُولد في الروح، وأن بعض اللقاءات لا تكون مع الأشخاص فحسب، بل مع الأسرار التي تختزلها الأمكنة.

هكذا يتحول النص من سرد ذكريات إلى بيان وجودي، ومن حكاية شخصية إلى أغنية جماعية تثبت أن النار التي تستيقظ فينا ليست سوى الذاكرة الحية التي ترفض الانطفاء، والحب الذي ينتصر على النسيان، والحياة التي تختار أن تحترق بدلاً أن تموت.

تحياتي واحترامي

زرتُ عرّابة البطوف قبل أربعةَ عشرَ عامًا، وما زالت تفاصيلها تعيش في داخلي كما لو أنني غادرتها البارحة. ذلك الضوء، وتلك الوجوه، ودفء البيوت… كلّها بقيت جمراً في الذاكرة، أضاء هذه الكتابة وأشعل فيها الحنين

عرّابة… حينَ استيقظتِ النارُ فينا .. بقلم : رانية مرجية

لم أزر عرّابة البطوف،
بل عادت هي إليّ،
كحلمٍ يعرف طريقه إلى القلب
دون أن يُطرق عليه.

جاءت في المساء،
على هيئةِ أرضٍ من تعبٍ وعناد،
وأنفاسها تفوحُ زيتونًا وحنينًا،
كأنها تقول:

“أنا الأصل،
كلُّ ما بعدي ظلال.”

هناك،
تتدلّى الروحُ من شجرةِ لوزٍ عتيقة،
والريحُ تُرتّبُ الحقولَ
كما تُرتّبُ أمٌّ شعرَ طفلتها قبل النوم.

دخلتُ بيتَ منال بدارنة،
البيتُ يشبهها:
نظيفٌ من الزيف،
دافئٌ كجملةٍ صادقة.
كانت المدفأةُ تشتعلُ كما يشتعلُ الشعر،
ببطءٍ، وبإصرارٍ جميلٍ على البقاء.

قالت لي: “اقتربي،
النارُ تعرفُ من لا يخافها.”

جلسنا،
وسخّنا الخبز على لهبٍ صغيرٍ،
نسيْناه في غمرةِ الكلام،
فاحترقَ وجهُه قليلاً،
وضحكنا —
ضحكنا حتى شعرَ الليلُ بالدفء،
حتى أضاءتِ العتمةُ من عيوننا.

قالت منال:

“كلُّ احتراقٍ هو عبور،
وكلُّ رمادٍ هو ذاكرة،
نحنُ لا نحترقُ لِنفنى،
بل لِنُضيءَ ما لا يُرى.”

كلماتُها تسللتْ إليَّ
كأنها موسيقى أولى للعالم.
رأيتُ في لهبِ المدفأة
نساءَ الجليلِ جميعًا:
يخبزنَ وجعَهنَّ على نارٍ واحدة،
ويضحكنَ كي لا يُهزمن.

النارُ كانت تُعلّمنا
أنَّ الدفءَ لا يأتي من الحطب،
بل من قلوبٍ تؤمنُ بالضوء،
وأنَّ الخبزَ حينَ يحترق
يصيرُ أكثرَ صدقًا،
كما يصيرُ الإنسانُ بعد الجرح
أكثرَ جمالًا.

نمتُ تلكَ الليلةَ
على وسادةٍ من حنينٍ،
وفي الحلم، رأيتُ نفسي أكتبُ بالرماد،
وكانتِ الكلماتُ تتوهّجُ
كأنها تتوضأ بالنار.

استيقظتُ مع الفجر،
والندى يغسلُ وجهَ البطوف،
والبيوتُ تفتحُ نوافذها على حياةٍ جديدة.
خرجتُ إلى الطريق،
وفي يدي رغيفٌ احترق نصفُه،
وفي قلبي ضحكةٌ كاملة.

سألتني الشمسُ:
ماذا وجدتِ في بيتِ منال؟
قلتُ:
وجدتُ الله في النار،
والوطنَ في رغيفٍ بسيط،
والشعرَ في ضحكتينِ
أنقذتا الليلَ من موته.

ومن يومها،
كلّما اشتعلَ شيءٌ في داخلي،
أبتسم،
وأقول:

“من خبزِ منال ودفءِ البطوف،
وُلدتُ من جديد،
امرأةٌ من لهبٍ
تعرفُ أنَّ الاحتراقَ طريقُ الخلاص.”

شاهد أيضاً

الرئيس محمود عباس يستقبل وفدا من اتحاد المقاولين الفلسطينيين

الرئيس محمود عباس يستقبل وفدا من اتحاد المقاولين الفلسطينيين

شفا – استقبل رئيس دولة فلسطين محمود عباس ” ابو مازن ” ، اليوم السبت، …