
أنا أكتمل حين أكتب وأعمل مع المختلفين ، بقلم: رانية مرجية
ليس سهلاً أن يعرف الإنسان أين تبدأ ذاته وأين تنتهي.
بالنسبة لي، كلّما حاولت أن أضع تعريفًا لما أنا عليه، وجدتُ أنني لا أُختصر في كلمة، ولا في مهنة، ولا في لقب.
أنا امرأة تتنقّل بين العوالم الثلاثة التي شكّلتني:
الكتابة، والعمل مع طيف التوحّد، وتوجيه المجموعات.
وفي المسافة بين هذه العوالم، أجد نفسي… وأكتمل.
الكتابة… أن تنصت لصوتك الداخلي
حين أكتب، أعود إلى نفسي كما يعود الطفل إلى صدر أمّه بعد البكاء.
الكتابة ليست ترفًا ولا هواية، إنها فعل نجاة.
أكتب لأتوازن، لأتذكر من أكون، لأتحدث إلى نفسي حين يصعب الحديث مع العالم.
في الكلمة أشفى من تعب الكلام، وفي الجملة أرمّم ما كسرته الأيام.
كلّ نصّ أكتبه يشبه اعترافًا صغيرًا لروحي.
أحيانًا أكتب لأحزن، وأحيانًا لأُسامح، وأحيانًا لأقول ببساطة:
ما زلت هنا، ما زال في داخلي شيء جميل لا يموت.
الكتابة هي مرآتي الصادقة،
حين أقف أمامها لا أضع مساحيق اللغة،
بل أرى وجهي كما هو، بملامحه، بعثراته، وضيائه.
العمل مع طيف التوحّد… أن تتعلّم الإصغاء للصمت
كلّ طفل من طيف التوحّد هو كونٌ قائمٌ بذاته.
يتكلّم بعيونه، يرسم أفكاره في الهواء، ويعلّمني كلّ يوم أن التواصل لا يحتاج دائمًا إلى كلمات.
حين أعمل مع هؤلاء الأطفال، أشعر أني أقترب من جوهر الإنسان الأول،
ذاك الإنسان الذي لم يفسده التكلّف ولا الزيف.
هم لا يعرفون المجاملة، ولا يتقنون الكذب،
لكنهم يعرفون الحبّ بنقائه الأول، ذلك الذي يشبه المطر حين يلمس الأرض.
منهم أتعلّم الصبر، ومنهم أستمدّ الإيمان بالاختلاف كقيمة،
لا كعقوبة.
هم يعيدون إليّ إيماني بأن كلّ روح خُلقت لتضيف شيئًا، لا لتتشابه مع أحد.
حين ينظر طفل من الطيف في عينيّ ويبتسم،
أشعر أن الله مرّ للتوّ من المكان.
توجيه المجموعات… أن تخلق الجسر بين القلوب
أما توجيه المجموعات، فهو الوجه الثالث من روحي.
هناك أكون صوتًا ومرآة في الوقت ذاته.
أصغي لما لم يُقل، وأُعيد ترتيب الفوضى بالكلمة.
أحبّ أن أرى الناس وهم يتصالحون مع ذواتهم،
حين يكتشفون أن الغضب ليس شجاعة،
وأنّ الإصغاء أصعب من الصراخ.
في كلّ مجموعة أوجّهها، أتعلم شيئًا جديدًا عن الإنسان:
كم هو هشّ، وكم هو عظيم.
أرى فيهم أجزاءً من نفسي:
امرأة خائفة تحتاج إلى احتضان،
ورجلًا جافًّا يخبّئ تحت صلابته قلبًا نقيًا،
وشابة تبحث عن الضوء في آخر النفق.
حين تنتهي الجلسة ويغادر الجميع،
أشعر أني لم أوجّههم فقط، بل تعلّمت منهم كيف أكون أهدأ، أكثر صدقًا، وأقرب إلى الإنسان الذي أطمح أن أكونه.
تكتمل شخصيتي بين الإنسان والكلمة
بين الكتابة والعمل مع المختلفين وتوجيه الناس،
أجد نفسي مثل شجرة تمتدّ جذورها في ثلاثة اتجاهات،
لكنها تثمر في مكانٍ واحد: القلب.
أنا لا أعيش هذه الأدوار متفرقة،
بل أتنقّل بينها كما تتنقّل الروح بين محطّات النور.
حين أكتب، أتذكّر الأطفال.
حين أُصغي لهم، أتعلم ما سأكتبه.
وحين أوجّه الآخرين، أكتشف ما كنت أجهله عن نفسي.
هكذا تتشابك الدوائر لتكوّن صورتي الكاملة:
امرأة تكتب لتفهم،
وتعمل لتُحبّ،
وتُحبّ لتبني.
في النهاية، أنا لستُ كاتبة فقط،
ولا مدرّبة فقط،
ولا مرشدةً فقط…
أنا كلّ هؤلاء،
ولذلك، حين أسأل نفسي من أكون،
أجيب ببساطة:
أنا أكتمل حين أكتب وأعمل مع المختلفين،
وحين أرى في كلّ إنسانٍ — مهما كان —
وجهًا صغيرًا من وجوه الله.