
جحيم الذاكرة… قراءة في كتاب “جحيم المعتقلات في العراق” للأديب والصحفي كاظم حسن سعيد ، بقلم: رانية مرجية
حين يتصدّى الأدب لمعركة الذاكرة، يصبح القلم بديلاً عن العدالة، والكلمة شاهدًا حين يصمت العالم.
بهذا الوعي يطلّ علينا الأديب والصحفي كاظم حسن سعيد في كتابه المزلزل «جحيم المعتقلات في العراق»، الصادر عن دار نشر تعيد للكتابة دورها كفعل مقاومة. ليس هذا مؤلفًا عابرًا في أدب السجون، بل نصٌّ مكتوب بالنار والدم، يضعنا وجهاً لوجه أمام قسوة التجربة العراقية في زمن الاستبداد، ويجعل من الاعتقال تجربة وجودية تتجاوز الجدران إلى كينونة الإنسان المهدور.
بين الشاهد والمروي عنه: الكتابة كخلاصٍ مؤجل
منذ الصفحات الأولى، يختار الكاتب موقعًا فريدًا: فهو لا يكتب بلسان الضحية وحدها، بل بلسان الشاهد الذي لم يمت بعد.
تُطلّ الذاكرة من بين فصول الكتاب مثل جرحٍ مفتوحٍ لا يندمل؛ فالسرد ليس تأريخًا زمنياً للمعتقلات، بل رحلة داخل النفس البشرية حين تتعرّى من كلّ أقنعتها. في كل سطر، يحاور كاظم حسن سعيد الإنسان الذي كانه، والذي لم يعد، في مواجهة أناه القديمة التي كُسرت ولم تُهزم.
إنه لا يدوّن ليشكو، بل ليُنقذ ما يمكن إنقاذه من الحقيقة، وليردّ على سؤالٍ وجوديٍ أبديّ:
هل يمكن للإنسان أن يبقى إنسانًا بعد أن يُسجن في الجحيم؟
بنية الكتاب: شهادة تتقاطع فيها الأزمنة
يقدّم الكاتب نصه في شكل لوحات متجاورة أكثر منها فصولًا كلاسيكية. كل لوحة تحكي عن مكان أو مرحلة من الاعتقال: قصر النهاية، نقرة السلمان، الرضوانية، مديرية الأمن، وأبو غريب.
لكن اللافت أن اللغة لا تسعى إلى توثيق البشاعة فقط، بل إلى تفكيكها. فالأديب، رغم خلفيته الصحفية، يتجاوز الخبر إلى التأمل الفلسفي، ويرسم مشاهد تحوّل الألم إلى وعي.
في أحد المقاطع يقول:
“في السجن، يصبح الهواء عدوًا آخر. لا لأنه شحيح، بل لأنه يذكّرك بأنك ما زلت تتنفس بينما غيرك صمت إلى الأبد.”
هنا تتحول الجملة إلى قصيدة خفية، تُعيد تعريف العلاقة بين اللغة والنجاة.
التحليل الإنساني والنفسي: من كسر الجسد إلى ترميم الروح
لا يكتفي سعيد بسرد التعذيب الجسدي، بل يغوص في أدقّ تفاصيل القهر النفسي:
الانتظار الطويل، الصمت الموزّع، لغة العيون بين السجناء، محاولات استعادة الذكرى وسط العتمة.
إنه يكتب عن “ما بعد الألم”، عن اللحظة التي يصبح فيها الخوف عادة، والرجاء جريمة، والذاكرة عبئًا.
الكاتب، الصحفي الذي تمرّس بالتحقيق والبحث، يتحوّل هنا إلى طبيبٍ للذاكرة الجمعية.
يفكك العلاقة بين الجلاد والضحية، بين السلطة والإنسان، ويؤكد أن “الاستبداد لا يُسجن الجسد فقط، بل يعتقل الخيال واللغة والمستقبل”.
في قلب النص: العراق بوصفه ضحية أخرى
بين السطور، يُعيد الكتاب رسم خارطة الوطن من داخل جدران السجون.
كل معتقل يتحوّل إلى وطن مصغّر، وكل سجين هو نسخة من العراق ذاته: مصلوب على أسوار الخوف، ممزق بين الأمل والخذلان.
تختلط أسماء المدن بأسماء الشهداء، وتتعانق الأمكنة بالوجوه المفقودة، وكأن المؤلف يريد أن يقول لنا إن العراق لا يمكن أن يُفهم إلا من خلال جحيمه.
في هذا السياق، يلتقي الأدب بالتاريخ، ليصبح السجن مرآة الوطن، والوطن سجنًا كبيرًا.
وهي معادلة تكرّرت في تجارب عربية كثيرة، لكن خصوصية هذا العمل تكمن في صدقه الفطري، وابتعاده عن أي تجميل أو مزايدة.
الأسلوب واللغة: بين البلاغة والمأساة
يتميّز أسلوب كاظم حسن سعيد بتوازن نادر بين السرد الوثائقي واللغة الشعرية.
كلماته مشحونة بطاقةٍ جماليةٍ تجعل الألم قابلًا للقراءة دون أن يُفقد صدقه.
هو يكتب كما لو أنه يعيد صياغة الحكاية لتُحكى من جديد، لا ليحزن القارئ فقط، بل ليُوقظه.
اللغة عنده ليست زينةً بل مقاومة، ليست ترفًا بل واجبًا.
ففي مواجهة الموت، تصبح الكتابة الفعلَ الوحيد الذي يمنح السجين حريته الرمزية.
قراءة نقدية: بين الذاكرة الفردية والجماعية
من الناحية النقدية، يقدّم هذا الكتاب نموذجًا فريدًا لما يمكن تسميته ب”أدب المقاومة التوثيقي”.
إنه يزاوج بين السيرة الذاتية والمرافعة الأخلاقية، ليصنع نصًّا يقف في المنطقة الوسطى بين الأدب والتاريخ.
وبذلك، ينضم إلى سلسلة من الأصوات العربية — من سجن تدمر في سوريا إلى الواحات في مصر — التي جعلت من الألم وثيقة ضد النسيان.
قد يُؤخذ على المؤلف أن السرد يتوقف أحيانًا عند حدود الذاكرة الشخصية، دون تحليلٍ موسّع للظروف السياسية التي أنتجت المعتقلات،
لكن هذا الاختيار يُحتسب له لا عليه؛ لأن الكاتب أراد أن يمنح للإنسان — لا للنظام — مركز الحكاية.
خلاصة القول
«جحيم المعتقلات في العراق» ليس مجرد كتاب عن الماضي، بل نداء للضمير الإنساني في الحاضر.
إنه عمل يذكّرنا بأن الحرية ليست شعارًا، بل تجربة تُكتب بالدمع والدم.
وكما يقول المؤلف في خاتمته:
“من لم يخرج من السجن، خرج منه نصه. ومن لم يخرج جسده، خرجت كلمته.”
في عالمٍ يسهل فيه التزييف، يأتي هذا الكتاب ليذكّرنا بأن الحقيقة قد تُسجن، لكنها لا تموت.
وأن الكتابة — كما أرادها كاظم حسن سعيد — هي الطريق الوحيد إلى العدالة التي لم تأتِ بعد