
النساء بين صبر الأمس وضجيج تحديات اليوم ، بقلم : الاديبة إيمان مرشد حمّاد
يتداول الناسُ بين الحين والآخر منشوراتٍ ومقولاتٍ تُعيد إنتاج ذات الفكرة البالية ولكن بصيغ مختلفة:
“قديماً، نجحت المرأة في بناء الأسرة رغم أميتها، أما اليوم، فلم تنجح رغم علمها وثقافتها!”
قد تبدو هذه الجملة صحيحة للوهلة الأولى، لكنها في حقيقتها تبسيط مغلوط، وتعميم يُغلق باب التفكير بدل أن يفتحه.
إنها مثالٌ صارخٌ على ما يمكن أن نطلقَ عليه “لغة التعميم المريحة”، تلك اللغة التي يحتمي الناس بظلها حين لا يريدون مواجهة واقعٍ معقد أو فهم أسبابه المتشابكة التي أسفرت عن ولادة معضلة يَصعُب مواجهتها.
هل كانت كل النساء قديمًا ناجحات؟
حين ننظر إلى الماضي بمرآة الحنين وعدسة التقديس، كثيرًا ما نرى صورة مثالية غير واقعية تذكرني بسؤال إنجليزي تقليدي وهو: ( Were the old good days really
good ? )
لكن الحقيقة أن النساء، كما الرجال، كنّ ولا زلنَّ بين ناجحة وفاشلة، قوية وضعيفة، صابرة ومستسلمة، مبدعة وخرقاء، حنونة وقاسية، لامعة ومنطفئة.
المرأة قديماً لم تكن دائمًا ناجحة في بناء الأسرة بقدر ما كانت محاصرة بخيارات محدودة جداً ومصهورة في قالب العادات البالية والتقاليد الخانقة، فلم يكن أمامها سوى الصبر.أما الطلاق فكان وصمة عار لا تزول، والعودة إلى بيت الأهل هي خيار غير مطروح أو قد يكون غير ممكن من الناحية التطبيقية ، واما العمل والاستقلال المادي فكان شبه مستحيل.
فهل يمكننا حقًا أن نُسمّي هذا “نجاحاً”؟ أم أنه أحياناً صبرٌ قسريٌّ فَرَضَهُ الخوفُ المحموم من المجهول؟
وهل المرأة الحديثة حقّاً فاشلة فعلًا؟
تعيشُ المرأةُ اليوم سياقاً معقداً وزمناً مختلفاً بكل المقاييس. إنه زمن تتقاطع فيه الأدوار وتتضارب فيه التوقعات؛ فهي مطالبة بأن تكون أمّاً مثالية، وزوجةً متفهمة، وطاهيةً ماهرة ، وموظفةً ناجحة، ومثقفةً منفتحة ، وسيدةَ مجتمعٍ لا تفوتها مناسبة ، ولا تقصرُ بأي من المهام — كل ذلك في آنٍ واحد! إنها تخوضُ معركةً متعددةَ الجبهات، وتواجهُ نقداً لاذعاً مضاعفًا إن تعثّرت في أي منها.
لكنّ الخطأ الكبير هو أن نختزل هذا التعثّر في فشلٍ شخصي أو عجزٍ أنثوي، بينما هو في الحقيقة نتاج تحوّلات اجتماعية واقتصادية ونفسية يعيشها الجميع، لا النساء وحدهنَّ.
الزواج ليس مقياس النجاح
يبدو أن المجتمع ما زال يختزل نجاح المرأة في قدرتها على “الاحتفاظ بزواجها”، حتى لو كان زواجاً محطماً يكون الخروج من بوتقته افضل من الإنصهار فيها.
لكن هل استمرار الزواج دليل على نجاحه؟
كم من زيجاتٍ استمرّت لأن المرأة لم تجد مأوى، أو لأن الطلاق كان تهمة خطيرة ، أو لأن الأولاد كانوا رهائن الخوف وضحايا الخيارات الكارثية؟
وفي المقابل، كم من نساءٍ اخترنَ الطلاق لأنهن امتلكنَ الشجاعة لمغادرة علاقة تستهلك كرامتهنّ؟
الطلاق لا يعني دائماً فشل المرأة، كما أن البقاء لا يعني دائماً نجاحها. ولا أريد لأحد أن يعتقد أنني هنا لا اقدر كثيراً حجم الجهد المبذول من قبل أيّ إمرأة وأم في بناء أسرة سليمة وأولاد متميزين مع الاحتفاظ بزواج ناجح، فهذا حتما مجهود جبار .
لماذا نحاكمُ المرأة وحدها؟
حين تفشل الأسرة، تتجه الأنظار تلقائياً نحو المرأة، وكأنَّ الرجل لا دور له في المعادلة! وهذه مغالطة شنيعة فلو كانت المرأة وحدها تكفي لتأسيس أسرة متكاملة، لما خلق الله زوجين اثنين. ومع أن هذه حقيقة بديهية إلا أن الكثير من الرجال يعتقدون أن دورهم ينحصر في النواحي المادية _ (وأخشى أن يتم التنازل حتى عن هذا الدور)_ ولا يعتبرون أن متابعة الأمور الأخرى تخصهم.
إن هذا التحيّز الضمني ضد المرأة بعزو فشل الأسرة لها يكشف خللًا في الوعي الجمعي أكثر مما يكشف عن واقع المرأة ذاتها. لذا في تراثنا العربي أوصت الاعرابية ابنتها ولكنها للأسف لم توصِ إبنها ، وكأن ثقافتنا تقول يكفي أن تقوم المرأة بما عليها لينجح الزواج .
الأسرة مشروع مشترك، وإذا انهار، فالمسؤولية تتوزع بين الطرفين، بل وربما تمتد إلى منظومة المجتمع بكليته. لكن من الأسهل على العقل الكسول والاتكالي الإسقاطي أن يُلقي اللوم على جهة واحدة بدل أن يعترف بتعقيد المشكلة.
فلنرتقِ في أحكامنا
من الإنصاف أن نقول: المرأة القديمة عاشت زمنًا مختلفاً، والمرأة الحديثة تواجه واقعاً أشدّ تعقيداً.
لا الأولى أفضل بالضرورة، ولا الثانية أسوأ.
كلاهما وليدتان زمانهما، ولكلٍّ منهما نجاحها الخاص وصراعها المختلف.
فلنكفّ عن استحضار الماضي كأداة لإدانة الحاضر.
ولنترك المرأة في حالها، ليس لأنها بلا أخطاء، بل لأنها إنسان يُخطئ ويصيب، يتعلّم ويتغيّر، ويبحث عن التوازن في عالمٍ لم يهدأ يومًا.
المرأة ليست مشروعاً اجتماعياً نختبر ُمن خلاله نجاح القيم، وليست كائناً خارقًا يُطلب منه الكمال، ولا شمّاعة نعلّق عليها فوضانا وإخفاقاتنا
هي ببساطة نصف المجتمع الذي يبني ويعمل ويربي، لا نصفه الذي يُلام فقط.
إيمان مرشد حمّاد