
صوت الحقيقة يُخيفهم ، بقلم : محمد علوش
قراءة في تهرّب موسى أبو مرزوق من السؤال الفلسطيني الكبير
ثمّة لحظات كاشفة في تاريخ الشعوب، لا لأنها تنتج حدثاً جديداً، بل لأنها ترفع الغطاء عن المستور، وتضع الوعي الجمعي أمام امتحان الحقيقة، ومن هذه اللحظات كان ظهور موسى أبو مرزوق، أحد أبرز قادة حركة حماس، في مقابلة على قناة الغد.
لم يكن اللقاء عادياً؛ فقد بدا كأنه اختبار للخطاب السياسي ذاته، ولقدرة من يفترض أنهم “قادة المشروع الوطني” على مواجهة الأسئلة الكبرى بصدق ومسؤولية، لكن الرجل، بدلاً من أن يقدّم إجابات على تساؤلات وطنية مشروعة، اختار لغة المراوغة والتبرير، وحين ضاق صدره بالسؤال، لجأ إلى الهجوم على المنبر الإعلامي الذي أتاح له فرصة القول، لا لأنه تجاوز حدود اللياقة المهنية، بل لأنه لامس جوهر الأزمة، أزمة غياب الحقيقة عن الخطاب السياسي الفصائلي.
السؤال الذي طرح كان بسيطاً في صياغته، عميقاً في دلالته: ما الذي جرى بعد السابع من أكتوبر 2023، ومن يتحمّل مسؤولية الكارثة الإنسانية التي حلّت بغزة، حين وضع شعب أعزل في مواجهة آلة حرب لا ترحم؟ ولم يكن السؤال استجواباً، بل محاولة لاستعادة المعنى الوطني في سياقٍ ضبابيٍّ تاهت فيه البوصلة، واختلطت فيه البطولة بالمغامرة، والمقاومة بالعبث السياسي.
غير أن أبو مرزوق لم يتعامل مع السؤال بوصفه حقاً عاماً، بل كأنه تهديد شخصيّ لسلطة لا تسأل، حيث هاجم قناة الغد، واتهمها بمعاداة المقاومة، وكأن النقد خيانة، وكأن من يطلب المحاسبة إنما يخدم “الأعداء”، وهنا تتجلّى المعضلة الفكرية العميقة في خطاب حماس وغيرها من التنظيمات التي جعلت من “المقاومة” ذريعةً تعفيها من النقد والمراجعة.
الواقع أن ما جرى في السابع من أكتوبر لم يكن فعلاً بطولياً بالمعنى التاريخي، بل مقامرةً غير محسوبة بشعبٍ بأكمله، قرار مصيريّ اتّخذ دون مشاورة وطنية، ودون تقدير للعواقب، ففتح أبواب الجحيم على غزة، ووفّر لإسرائيل الذريعة الأخطر لتوسيع حرب الإبادة، في غياب أي غطاء سياسي أو دبلوماسي أو حتى رؤية استراتيجية واضحة، والكارثة لم تكن فقط في حجم الدمار، بل في عجز القيادة عن الاعتراف بخطئها، واستمرارها في تكرار سردياتٍ تبريرية لا تقنع أحداً.
منذ عامين، وأهل غزة يعيشون أقسى فصول المأساة: حصار وتجويع وتهجير وإبادة، بينما يكتفي قادة الفصائل بخطابات شعاراتية ولقاءات إعلامية، تعيد إنتاج العجز وتخفي الفشل وراء مفرداتٍ كبيرة عن “الصمود” و”الانتصار”، وكان لقاء أبو مرزوق يمكن أن يكون لحظة مكاشفة ومراجعة؛ غير أنه تحوّل إلى دليلٍ جديد على غياب النقد الذاتي، وعلى عمق الأزمة البنيوية في الفكر السياسي الفلسطيني الذي ما زال يهرب من مواجهة نفسه.
الهروب من الأسئلة لا يلغيها، ومهاجمة الإعلام لا تُسقط حق الناس في المعرفة، بل إن ردّ الفعل العدواني على السؤال يكشف حجم الرعب من الحقيقة، فحين يخاف القائد من الكلمة، يكون قد فقد يقينه بعدالة ما يفعل.
إن القضية الفلسطينية، وقد بلغت هذا المفصل الحرج من تاريخها، لا تحتاج إلى خطاباتٍ تعبويّة، بل إلى شجاعة فكرية تعيد الاعتبار للعقل النقدي، وتضع المصلحة الوطنية فوق الولاءات الفصائلية، فالحقيقة لا تصادر، والوعي لا يكمم، والشعب الذي يقدّم الدم لا يخدع بالشعارات، ولذلك نقول بوضوح، أن من يهاجم الإعلام لأنه طرح سؤالاً وطنياً، إنما يهاجم جوهر الحرية التي من دونها لا مقاومة ولا مشروع وطني، أما الحقيقة، فستبقى أقوى من الغضب، وأصدق من كل تبرير متهافت، فهي لا تنتظر إذناً من أحد، ولا تتراجع أمام ارتباك مسؤول يظن أن الصوت العالي يمكنه أن يغطي صمت الضمير.