
اعتراف بريطانيا في الدولة الفلسطينية.. المسؤولية التاريخية والبعد القانوني ، بقلم : عميد دكتور شادي جبارين
لا يمكن الحديث عن الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين دون التطرق للإطار التاريخي الذي تكونت فيه العلاقة بين البلدين، ذلك أن بريطانيا ليست مجرد قوة استعمارية عابرة، بل هي الدولة التي أنيط بها، تهيئة الفلسطينيين لممارسة تقرير مصيرهم وإنشاء دولتهم المستقلة. بموجب صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم عام 1922، ووفقا للمنظور القانوني الذي يحكم نظام الانتداب، فإن الدولة المنتدبة عليها أن تتحمل مسؤولية دولية واضحة تجاه الشعوب التي وضعت تحت وصايتها، بما في ذلك تعزيز مؤسسات الحكم الوطني، وتطوير البنية الإدارية والاقتصادية بما يفضي إلى بناء الدولة. إلا أن بريطانيا لم تفِ بهذه الالتزامات، بل استخدمت سلطاتها لترسيخ مشروع استيطاني على حساب الفلسطينيين سكان الأرض الأصليين.
في ذات السياق، لا يعد اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين تحولا في الموقف السياسي، بل هو تفعيل لمسؤولية قانونية وكذلك أخلاقية كانت معطلة منذ عقود، ما جعل اعترافها اليوم يحمل بعدا تأسيسيا يعيد توجيه النقاش القانوني نحو أصل القضية الفلسطينية كقضية حرمان ممنهج من حق السيادة.
أهمية هذا الاعتراف تتجاوز المستوى الثنائي لتطال بنية النظام الدولي نفسه، لا سيما أن بريطانيا لا تزال هي إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وعضوا مؤسسا في المنظومة القانونية الدولية الحديثة.
إن اعتراف دولة بهذا الثقل القانوني والتاريخي من شأنه أن يحدث تحولا نوعيا في الخطاب الدبلوماسي الدولي تجاه القضية الفلسطينية، ويعيد تصحيح المسارات القانونية التي طالما اختزلت في منطق التفاوض أو التوازنات السياسية.
كما أن، هذا الاعتراف من بريطانيا يرجح كفة الرأي القانوني الذي يرى في فلسطين دولة قائمة بالفعل، تستحق العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وليست “كيانا مرشحا للدولة” ينتظر ما تسفر عنه المفاوضات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى البعد الجيوسياسي للاعتراف، وخصوصا تأثيره المحتمل في دائرة دول التاج البريطاني. فبريطانيا ليست كيانا منعزلا، بل تشكل مرجعية رمزية وسياسية لعشرات الدول التي ترتبط معها بتاريخ مشترك تعيد ترتيب المساحات القانونية التي كانت تتهرب منها بعض الدول بحجة عدم اكتمال عناصر الدولة الفلسطينية.
هذا الاعتراف يشكل تحديا نوعيا للسياسة الخارجية الإسرائيلية التي طالما استندت إلى شرعية دولية غير متكافئة، قائمة على تحالفات استراتيجية مع القوى الغربية الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة. فمنذ قيام دولة إسرائيل، لم يكن الاعتراف الدولي بها محض استجابة لقواعد القانون، بل كان انعكاسا لترتيب دولي صاغه ميزان القوى لا ميزان العدالة. من هنا، فإن خروج دولة ذات وزن تاريخي وقانوني مثل بريطانيا عن هذا الاصطفاف، يمثل خلخلة في البنية التي مكنت إسرائيل من إدارة الاحتلال تحت غطاء دولي صامت.
لقد سعت إسرائيل، ردا على هذه الاعترافات، إلى ممارسة ضغوط دبلوماسية حادة، وصلت إلى حد التهديد بإلغاء التأشيرات أو قطع العلاقات مع دبلوماسيي الدول التي تعترف بفلسطين. غير أن هذه الاستجابات الانفعالية تؤكد ضيق الخيارات الإسرائيلية في مواجهة تحول قانوني عالمي يربك منظومة “الحصانة الدبلوماسية” التي اعتادت العمل في ظلها. فعندما تصبح بريطانيا -الدولة التي منحتها غطاء قانونيا منذ وعد بلفور– في صف الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن الأدوات التقليدية للضغط والردع تفقد فعاليتها، وتتحول التهديدات الدبلوماسية إلى مظاهر توتر دولة بدأت تخسر قدرتها على التأثير في تشكيل الإرادة الجماعية الدولية.
كما يعد هذا الاعتراف شهادة دولية بنجاح الدبلوماسية الفلسطينية في ترسيخ حضور الدولة الفلسطينية في الوعي القانوني الدولي. فرغم التحديات الجسيمة، والمجتمع الدولي المتذبذب، والصراعات المتفجرة في الإقليم، نجحت القيادة الفلسطينية، ممثلة بفخامة الرئيس محمود عباس، في الحفاظ على ثبات المسار السياسي والدبلوماسي، وتجنب الانزلاق في مشاريع الصدام العسكري التي تسعى أطراف إقليمية ودولية إلى فرضها.
حيث يعتبر هذا الاعتراف تتويجا لنهج عقلاني قانوني تبنته الرئاسة الفلسطينية، يقوم على تحويل القضية الفلسطينية من مسألة تفاوضية إلى قضية قانون دولي، قائمة على الاعتراف، العضوية، والمساءلة.
هذا التحول لم يكن وليد لحظة، بل حصيلة استراتيجية استمرت على مدار عقدين، تمثلت في الانضمام إلى المنظمات الدولية، وتحقيق العضوية في المحكمة الجنائية الدولية، والدفاع عن فلسطين بوصفها دولة تحت الاحتلال، لا كيانا سياسيا بانتظار “صفقة”. وبهذا المعنى، فإن هذا الاعتراف يعد تكريسا لنهج الدبلوماسية الهادئة، التي انتزعت مكاسب قانونية وسياسية من دون إراقة قطرة دم فلسطينية واحدة.
المستشار القانوني لهيئة التوجيه السياسي والوطني