
الافتراء على دور اليسار ، حين يُشوَّه النور في عيون العابرين ، بقلم : محمد علوش
في دهاليز الخطاب العام، حيث تختلط الحقائق بالأوهام، ويضيع صوت العقل بين ضجيج الشعارات، تبرز مأساة فكرية وأخلاقية تدعى “الافتراء على اليسار”، وليست هذه مجرد حملة تشويه، بل فصل جديد من حرب طويلة تخاض ضد فئة لم تكن يوماً بلا أخطاء، لكنها، في جوهرها، حملت عبء الحلم الإنساني في وجه منظومات القهر والاستغلال.
فاليسار عموماً، منذ بواكير نشأته، لم يكن صوتاً للنخب ولا أداة للسلطان، بل كان همس الكادحين، وصرخة الفقراء، وخطى العابرين في دروب العدالة الاجتماعية، حمل شعلة الفكر التحرري، وسعى إلى إقامة ميزان ينصف من طحنهم الفقر، واستباحهم الجهل، وداستهم عجلة الرأسمال المتوحش، ومع هذا، لم يسلم من خناجر الطعن، ولا من الخصوم فحسب، بل أحياناً من رفاق الأمس الذين ارتدّوا حين ضاق بهم الطريق.
اليوم، حين يُذكر اليسار في مجالس الجدل، لا يستدعى كرمز نضالي أو كتيار فكري قاوم الاحتلال والاستبداد، بل يرمى بسهام التشكيك والتخوين، ويصوَّر كأنه طابور خامس، أو ظلٌّ لعدوّ، أو أثرٌ بالٍ لأيديولوجيا غابرة، ويتّهم زوراً بأنه حليف الفوضى، وأنه يعادي الدين، ويكره الأوطان، كأنما العدالة جريمة، والتفكير حرام.
وهنا، تنكشف بشاعة الافتراء، ليست في كذبه فحسب، بل في نزع سياق التاريخ، وفي استباحة ذاكرة الشعوب، فهل يعقل أن يمحى نضال النقابيين والكتّاب والمثقفين الذين ضحّوا بحريتهم – وأحياناً بأرواحهم – من أجل حلم المساواة، أليسوا هم من وقفوا في وجه الاحتلال والديكتاتوريات، حين صمتت أفواهٌ وارتعشت أقلام؟
إن ما يرتكب بحق اليسار ليس مجرد تحريف، بل اغتيال معنوي لفكر طالما شكل ضميراً يقظاً في وجه الجبروت، نعم، أخطأ اليسار أحياناً، وانزلق في متاهات الأدلجة أو وقع في فخ السلطة، لكنه لم يتخلّ يوماً عن جوهر القضية: الإنسان.
فلنتحرّر من الأحكام المعلّبة، ولنتأمل التاريخ بعين منصفة، فالافتراء على اليسار، هو افتراء على الذات، وعلى إمكانية التغيير، وعلى الأمل الذي لا يموت، حتى وإن نُكّس علمه، وسُخّر الإعلام لإسقاط رموزه.
في النهاية، تبقى الأفكار العظيمة كالماء، إن وئدت هنا، تفجّرت هناك، واليسار، رغم كل ما قيل ويقال، يظل جمراً تحت الرماد، يحمل في طيّاته بريق العدل، لمن أراد أن يرى.