
المادية التاريخية.. نحو مشروع وطني ما بعد الاحتلال ، بقلم : محمد علوش
كان لي شرف المشاركة في الندوة الفكرية الهامة التي نظّمها المنبر التقدمي الديمقراطي الفلسطيني المستقل تحت عنوان: “المشروع الوطني الفلسطيني من منظور ماركسي”، حيث قدّم الرفيق الدكتور مضر قسيس، أستاذ الفلسفة ومدير معهد مواطن في جامعة بيرزيت، ورقة عميقة ومكثفة، فيما أدار الرفيق سهيل السلمان الحوار بروح ملتزمة وواعية بالمسؤولية التاريخية.
لم تكن الندوة مجرّد نقاش سياسي عابر، بل كانت استعادة حيّة للمنهج الماركسي في قراءة الواقع الفلسطيني، بكل ما يحمله من تعقيدات وتشابكات، وفتحاً لأفق جديد يربط قضيتنا الوطنية بسياقها الأممي والجدلي، فمن منظور المادية التاريخية، لا يمكن فهم المشروع الوطني الفلسطيني إلا بوصفه نتاجاً لصراع تاريخي طويل الأمد؛ صراع يتجاوز الاحتلال العسكري المباشر، ليشمل البنية الطبقية الداخلية، وآليات الهيمنة الإمبريالية، ورهانات المجتمع في حاضره ومستقبله.
فالتاريخ ليس سردية جاهزة تلقّن ولا لوحة مكتملة المعالم، بل هو نتاج ديالكتيك حيّ تتحرك في فضائه التناقضات وتولد التحولات، وإذا كانت فلسطين اليوم تتوسط واحدة من أفظع المآسي الإنسانية التي يصنعها الاستعمار الاستيطاني، فإنها في الوقت نفسه في قلب معركة أممية أشمل ضد الفاشية الجديدة والإمبريالية العالمية، حيث يتقاطع المحلي مع العالمي، والوطني مع الطبقي، والنضال اليومي مع الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى.
من هنا، يغدو المشروع الوطني الفلسطيني أبعد من كونه ملفاً تفاوضياً أو قضية محلية؛ إنه تعبير عن حركة التاريخ ذاتها، تاريخ الشعوب التي لا تكتب من فوق كراسي السلطة فقط، بل من خنادق المقاومة، ومن ميادين العمال والفقراء والمهمشين، حيث يتجسد المعنى الحقيقي للتحرر الوطني.
وقد جاءت مداخلة الدكتور مضر قسيس لتؤكد أن تحرير فلسطين لا ينفصل عن تحرير الإنسان الفلسطيني نفسه من شروط القهر والاستغلال؛ وأن الدولة المستقلة لا معنى لها ما لم تكن دولةً لمجتمع حرّ، عادل، ديمقراطي، يعكس جوهر التحولات الثورية التي تصنعها الشعوب عبر مساراتها التاريخية، فالماركسية هنا ليست نظرية جامدة، بل أداة لفهم الواقع وتغييره، ولتفكيك بنياته القائمة وفتح الطريق نحو أفق جديد لما بعد الاحتلال.
في هذا السياق العالمي المتموج، حيث تتصدع منظومة الهيمنة الأميركية وتبرز ملامح نظام دولي متعدد الأقطاب، يتوجب علينا أن نعيد مساءلة مشروعنا الوطني: كيف نصوغه في انسجام مع هذه الموجة التاريخية الصاعدة؟ وكيف ترتقي المقاومة الفلسطينية إلى مستوى التحديات الجديدة، وهي تدرك أن التاريخ لا ينتظر المترددين، بل ينحاز دوماً إلى من يمتلكون الإرادة والفعل؟
خرجت من هذه الندوة أكثر يقيناً بأن المشروع الوطني الفلسطيني لا يمكن اختزاله في شعارات أو صيغ جاهزة، بل هو عملية تاريخية ممتدة، غايتها زوال الاحتلال وبناء مجتمع حرّ طال انتظاره.
إن المستقبل الذي نطمح إليه لا يتمثل فقط في دولة ما بعد الاحتلال، بل في تاريخ جديد تعيد فيه فلسطين إنتاج ذاتها، مستندة إلى صراعها الطويل، وإلى وحدة نضالها الشعبي، وإلى انتمائها الأممي العميق.