11:44 مساءً / 2 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

بين السليمانية وأربيل ، طريق الوداع والنجاة ، بقلم : محمد علوش

بين السليمانية وأربيل: طريق الوداع والنجاة ، بقلم : محمد علوش

لم يكن الصباح في السليمانية كأي صباح آخر، فالمدينة التي احتضنتنا أسبوعاً كاملاً من النقاشات واللقاءات والفعاليات ضمن مؤتمر التحالف الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي، بدت في لحظة الوداع أثقل من الجبال المحيطة بها، ودّعنا الرفاق واحداً تلو الآخر، ووجوههم المضيئة بالرفقة والنضال ستظل محفورة في القلب، وأصواتهم التي امتلأت بالحديث عن العدالة والحرية ستبقى صدىً يرافقنا في الطريق.


وقبل أن نشدّ الرحال، اجتمعنا حول مائدة في مطعم كردي شعبي عريق، تزيّنت جدرانه بصور القرى والجبال والفرسان، وامتلأت أجواؤه بعبق التوابل والخبز الطازج، وهناك تذوّقنا ما تشتهر به كردستان من وجبات أصيلة، الدولمة الملفوفة بإتقان، وكباب السليمانية المتوهج على الفحم، واللبن الكردي البارد الذي ينعش الروح بعد حرارة الطعام، ولم يكن الغداء مجرد وجبة، بل كان احتفالاً أخيراً بالرفقة، ومذاقاً يختزن في الذاكرة مثل أي خطاب أو نقاش شاركنا فيه.


انطلقت السيارة بعد ذلك على الطريق الجبلي الملتف، يغزل بين القمم العالية والأودية الخضراء، وخلفنا بقيت السليمانية مثل قصيدة لم تكتمل أبياتها بعد، وأمامنا كانت أربيل تنتظرنا كبوابة السفر والرحيل.


مررنا أولاً بقرى صغيرة نامت عند سفوح الجبال، بيوتها الحجرية تحاكي لون الأرض، وحدائقها البسيطة تنبض بالخضرة، وعلى جانبي الطريق بدت الأسواق كأنها تستيقظ ببطء، نساء يفرشن الخضار الطازجة، وباعة يلوّحون بأيديهم للسيارات العابرة، وأفران تنفث بخار الخبز الساخن فتملأ الهواء برائحة بيتية دافئة.


ثم توالت المشاهد تباعاً: حقول واسعة تتدرج ألوانها بين الأخضر والذهبي كأنها سجادة عظيمة نسجتها يد الطبيعة، وجداول مائية تتسلل بين الصخور فتتلألأ كالفضة في عيون الشمس، وقرى معلّقة على التلال تبدو من بعيد مثل لوحات زيتية علّقها فنان على جدار الأفق.


وعند أحد المنعطفات، بدا جبل (هاوالات) شامخاً كحارس أبدي يروي حكايات الكرد وكفاحهم الطويل، ثم ظهرت مدينة (كويسنجق) أشبه بفسحة ضوء وسط الطريق، تستقبل العابرين بودّ وتودّعهم بخفة، بمقاهيها الصغيرة وأسواقها البسيطة التي بدت كاستراحة من السفر.


لكن الرحلة التي بدأت هادئة لم تخلُ من مفاجأة قاسية؛ فقد تعرضنا خلال الطريق لحادث سير أربك اللحظة وأوجع القلوب، فقد ارتجّت السيارة فجأة، وتصاعدت الأنفاس متقطعة، ثم خيّم صمت ثقيل لم يقطعه سوى كلمات الاطمئنان المتبادلة، غير أن عناية الله كانت حاضرة، فخرجنا جميعاً بسلامة الأجساد، وإن بقيت الرهبة عالقة في الأرواح، نذكّر أنفسنا أن النجاة هبة تستحق الحمد.


وما إن استوعبنا ما حدث حتى وجدنا الرفاق الأكراد من حولنا، يهرعون لمساعدتنا بقلوب مفتوحة وأيادٍ ممدودة، قدّموا الماء، رتّبوا الطريق، وسألوا عن حال كل واحد منا. كانوا كما عهدناهم في المؤتمر، إخوة في النضال، ورفقاء في المحنة، لا يترددون في بذل الجهد والعون حتى تجاوزنا الموقف بسلام، وتلك اللحظة ستبقى شاهداً على أن التضامن ليس شعاراً يقال، بل فعل يعاش حين يقترب الخطر.


وفي السيارة، ساد صمت آخر، لكنه هذه المرة كان مشبعاً بالامتنان، استعدنا الوجوه التي فارقناها في السليمانية، وابتسمنا خفية على مواقف عابرة، وفكّرنا كيف تحوّلت لحظة الخطر إلى ذكرى تؤكد عمق روابطنا.


وحين بدأت ملامح أربيل تقترب، بدت قلعتها العريقة كأنها تنادينا من بعيد، شاهدة على آلاف السنين من الحضارة، وموطناً دائماً للتاريخ، وهناك، عند بوابة المطار، امتزجت المشاعر بين فرح العودة إلى الأوطان وحزن الفراق، بين شوق لقاء الأحبة وانتظار الطائرات، وبين يقينٍ أن ما جمعناه من رفقة ونقاش وأحلام وتجارب، سيظل ممتداً معنا بعد أن تغادر الطائرة مدرجها متجهة نحو عمّان.


لقد كان الطريق إلى أربيل أكثر من مجرد مسافة بين مدينتين؛ كان طريقاً امتحن القلب في لحظة الخطر والوداع، ومنحه في الوقت ذاته زاداً من الذكريات، ومذاقاً لا ينسى من الضيافة الكردية، ووهج الصداقة التي تكتب لا بالحبر بل بالمواقف، وتحفظ لا في الكتب بل في القلوب.

شاهد أيضاً

اسعار الذهب اليوم

اسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت اسعار الذهب اليوم الثلاثاء 2 سبتمبر كالتالي : سعر أونصة الذهب عالمياً …