
عابر المطارات ، بقلم : محمد علوش
في مطار الملكة علياء، حيث يختلط ضجيج الرحلات بوشوشات القلوب، جلست في محطة المغادرين أرتشف قهوتي ببطء، كأنني أؤجل لحظة الرحيل، كان المكان يغلي بالوجوه، وجوهٌ تحمل ملامح أممٍ متباعدة، كأن العالم بأسره ضاق فانحشر في هذا البهو الواسع.
هناك، في الزاوية القريبة من بوابة السفر، رأيت رجلاً يطوّق ابنه بذراعين مرتجفتين، يزرع في جبينه قبلة طويلة تشبه وصية العمر، وعلى مقعد آخر، امرأة تلوّح بيد مرتجفة، فيما الدموع تنهمر على وجنتيها كأنها تغسل الذاكرة من قسوة الفراق، أما الأطفال، فكانوا يبكون بصوت خافت، يشدّون ثياب آبائهم، لا يفهمون معنى الحدود والجوازات والرحيل، لكنهم يشعرون بثقل الخسارة في قلوبهم الصغيرة.
أصوات النداءات عبر مكبرات الصوت كانت تبدو كجرس يعلن بدء طقس الوداع، ففي كل رحلة نداء، وفي كل نداء دمعة، كأن المطار مسرح ضخم يتوزع فيه البشر بين أدوار متشابهة، وداعٌ ولقاء، دمعةٌ وابتسامة، وقلبٌ يرحل وآخر يظل.
وبين كل تلك المشاهد، كنت أتأمل وجوه المسافرين، وجوهاً محمّلة بأحلامهم وأسرارهم وأوطانهم الصغيرة التي يحملونها في حقائبهم، ووجدت نفسي أكتب على صمت القهوة جملةً واحدة: المطارات ليست ممرات عبور فقط، إنها مختبرٌ للإنسانية، حيث تتعرى العاطفة من كبريائها، ويقال كل شيء بدمعة واحدة.
وأنا الفلسطيني، القادم من أرض النشيد ومن وجع الطرقات البعيدة والحدود الموصدة، حملت معي بعضاً من زادي وكثيراً من صبري، وسلكت طريقاً طويلاً حتى وصلت إلى الأردن، لأكمل رحلتي من مطاره إلى أربيل، فالسفر بالنسبة لي ليس مجرد انتقال من مدينة إلى أخرى، بل عبورٌ من ألمٍ إلى أمل، ومن منفى إلى منفى جديد، وفي المطارات دائماً أكتشف دوماً أنني لست وحدي، وأن وجع الوداع لغة عالمية يفهمها الجميع، لكنها عند الفلسطيني تصير وطناً آخر مؤقتاً يرافقه أينما ارتحل.