
لا تدعوا الغياب يموت مرتين: قراءة وجدانية في حكايا الغياب… للأديبة أمل الخواجا ، بقلم : د. وليد العريض
من ديوان مقاوم خاص (13)
في واحدة من سلسلة حلقات شهر آب التي نظمها مركز الدراسات اللاتينية بجامعة مينيسوتا، حيث اجتمع الفكر والأدب والفلسفة في فضاء واحد، برعاية الدكتور علي الشبول، عالي الثقافة والمعرفة، وبإدارة الدكتورة نور سعد المتميزة في فن التقديم والحوار، وبحضور ثلّة من الباحثين والأدباء من أنحاء الوطن العربي؛ حملت إلينا الندوة الرابعة دفئًا مختلفًا حين استضافت الأديبة أمل الخواجة وكتابها حكايا الغياب.
لم يكن اللقاء مجرد مناقشة لكتاب أدبي، بل كان فتحًا لباب الغياب على مصراعيه؛ ذاك الغياب الذي يملأ الحياة أكثر مما يفرغها. الغياب هنا ليس فراغًا ولا صمتًا، بل حضور يتشكّل من ظلال وأصداء وذكريات، حضور يفرض نفسه بغيابه ويقود النصوص إلى فضاء تتقاطع فيه التجربة الإنسانية مع الشعرية العالية.
من يقرأ حكايا الغياب يدرك أن الغائب ليس شخصًا واحدًا، بل هو الكائن الأكبر الذي يحرك النصوص جميعها: غياب أم، حبيب، وطن، عدالة، أو حتى غياب الذات عن نفسها. الغائب هنا مولّد الصراع، باعث الحنين ومحرّك اللغة، إذ يتخذ أشكالًا رمزية لا تُحصر في صورة واحدة. وكأننا أمام بطل خفي، لا يظهر جسده لكن يترك أثره في كل فصل، في كل جملة، في كل صمتٍ تقطر منه الدموع.
تقول الخواجة في نصها لو مر طيفك:
” لو مرَّ طيفك
لأوقدتُ شمعةً في آخر الليل،
وقلتُ للريح: تمهَّلي قليلاً،
فلعلَّه يترك لي أثرًا
يمسح عن وجهي برد الغياب.”
أسلوب الخواجة يضفي على النصوص طابعًا وجدانيًا صادقًا، كأنها تكتب مباشرة من جرح مفتوح، أو من قلب يقطر حنينًا. جملها قصيرة، لكنها تتسع لعاطفة هائلة وتستدعي الليل والبحر والمطر والظل لتكون مرايا لمشاعرها. نصوصها لا تعطينا قصة ذات بداية ونهاية، بل شذرات من ذاكرة موجوعة وهذا ما يمنحها صدقها.
ولعل نصها أيها الغياب يكشف عن هذا البوح العميق:
أيها الغياب
كم أخذتَ من أرواحنا
وتركتنا نبحث في الهواء عن دفءٍ لا يعود.
نصحو على فراغٍ يثقل الصدور
ونمضي وفي جيوبنا حجارةٌ من صمتك.
اللافت أن الغياب في كتابها لا يكتفي بأن يكون حالة وجدانية فردية، بل يتحوّل إلى شكل من أشكال المقاومة. فالفقد يصبح وقودًا للاستمرار والغائب يتحول إلى رمز جماعي يذكّر الأحياء بواجبهم في حفظ الذاكرة. وكأن النصوص كلها تصرخ:
لا تدعوا الغياب يموت مرتين، مرة بالرحيل ومرة بالنسيان.
تقول الخواجة في صمت الغياب:
“في صمت الغياب
تتكسَّر الأصوات في حنجرتي
وتذوب الكلمات قبل أن تولد.
أجلس مع صورٍ لا تتكلّم
وأحادث ظلًّا لا يجيب.”
إن حكايا الغياب ليست رواية تقليدية ولا مجموعة قصصية، بل هي شهادة وجدانية صافية، تُسكب في لغة شاعرية رقيقة، وتترك في القارئ أثرًا لا يمحوه الوقت. قد يجد البعض في التكرار حضورًا مبالغًا فيه للغياب ذاته، لكنه انعكاس طبيعي لثيمة تريد الكاتبة أن تُلحّ بها على وعي القارئ. وما يجعل الكتاب أكثر قيمة هو صدقه الإنساني؛ فالنصوص ليست تمرينًا أدبيًا، بل صدى لتجربة عاشتها الكاتبة حتى آخر خلية من روحها.
إنه كتاب يليق بالذين مرّوا بتجربة الفقد وبالذين يبحثون عن لغة تُواسيهم أو تُعبّر عنهم. وهو أيضًا كتاب للقارئ العادي الذي لم يقرأ كثيرًا في الأدب، لكنه سيجد في هذه النصوص صدًى لمشاعره المكبوتة. في النهاية، تترك أمل الخواجة لقارئها مرآة من حنين، تجعله يرى في الغياب أقسى حضور وأشدّ وضوحًا.
حكايا الغياب عمل أدبي وجداني يذكّرنا بأن الكتابة ليست دائمًا بحثًا عن الحكاية، بل أحيانًا هي مجرّد محاولة للنجاة ولإبقاء الغائب حاضرًا فينا، ما دمنا نملك الكلمة وما دام الحنين قادرًا على خلق نصّ يضيء في العتمة.
وختاما:
“أيها الغياب
كم أخذتَ من أرواحنا
وتركتنا نبحث في الهواء عن دفءٍ لا يعود.
نصحو على فراغٍ يثقل الصدور
ونمضي وفي جيوبنا حجارةٌ من صمتك.
نفتّش عن ظلٍّ يشبه ملامح من رحلوا
فنجد وجوهنا أكثر شيخوخة من قبل.
أيها الغياب
أعدْ لنا بعض ما سرقتَ،
دعْنا نصدّق أن للحياة بقية
وأن الحنين ليس قدرًا أبديًا.”