
محكمة العدل الدولية: بين القانون وهرطقات القيامة ، بقلم : محمد علوش
منذ تأسيس محكمة العدل الدولية، ارتسمت صورتها كذروة القانون الدولي، وذخيرة إنسانية لمواجهة الفوضى والعدوان والتغوّل، غير أن هذه الصورة تتصدع حين يعتلي منصتها قضاة يستبدلون النص القانوني بالهلوسة الدينية، والمبدأ بالاستيهام، والعدالة بالتحريف.
القاضية الأوغندية جوليا سيبوتندي تمثل نموذجاً فاضحاً لهذه المفارقة، فهي لم تكتف بانحيازها المسبق لدولة الاحتلال الإسرائيلي خلال مداولات المحكمة بشأن جرائم الإبادة الجماعية في غزة، بل صرّحت من على منبر كنسي بأن “الرب يعتمد عليها للوقوف إلى جانب إسرائيل”، وأن الحرب على غزة “علامة على نهاية العالم”، ففجأة، تحوّل القانون الدولي إلى فصل من سفر الرؤيا، والمحكمة إلى منبر وعظ تبشيري.
ليس في ذلك غرابة إذا وضعناه في سياق تيارات “المسيحية الصهيونية” التي تتحكّم في شطر من القرار الغربي، خصوصاً في الولايات المتحدة، وتلك التيارات ترى في الدم الفلسطيني وتهديد القدس وخراب المسجد الأقصى مجرد تمهيد لعودة “المخلّص” وبناء “الهيكل الثالث”، ومن رحم هذا الخيال المريض صدرت قرارات مثل اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومنه استمدت سيبوتندي شجاعتها للانحياز إلى الباطل.
لكن خطورة سيبوتندي لا تكمن في هلوساتها وحدها، بل في تحوّل منصة المحكمة، بما تمثل من سلطة أخلاقية وقانونية، إلى جسر لتبييض الجرائم الإسرائيلية، فقد كشف الكاتب الأمريكي نورمان فنلكستين أن مرافعاتها في لاهاي لم تكن سوى نسخ من الأدبيات الإسرائيلية أو تقارير إعلامية غربية منحازة، وحتى من موسوعة “ويكيبيديا”، أي أنها لم تكن تقاضي بالحجة، بل تنقل أصوات الاحتلال حرفياً.
لقد اضطرت حكومتها نفسها للتبرؤ منها، وهذا يكشف حجم الورطة الأخلاقية التي تورطت فيها أوغندا، لكن الورطة الأكبر تكمن في لاهاي نفسها، فكيف يمكن إسناد مصير العدالة الدولية إلى قضاة يستبدلون القانون بالأسطورة، والمنطق بالوحي المزعوم؟
إن ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في غزة من إبادة جماعية وإرهاب وحشي وتطهير عرقي، وما يحظى به من غطاء سياسي وعسكري أمريكي وغربي، يجد اليوم في سيبوتندي صدىً قضائياً يضاعف الألم الفلسطيني، وكيف للشعوب المقهورة أن تؤمن بعدالة دولية يتصدّرها من يرى أن قصف المستشفيات والمخيمات ليس جريمة حرب، بل “علامة على نهاية الزمان”؟
لقد آن الأوان لنزع القداسة الزائفة عن المؤسسات الدولية، ومطالبتها بالعودة إلى جوهرها – القانون، العدالة، والإنصاف – فإذا تركت لتستباح بأوهام دينية أو حسابات سياسية ضيقة، فستكون مجرد شاهد زور على مجازر ترتكب في وضح النهار.
اليوم، يتضح أن معركة الشعب الفلسطيني والرواية الفلسطينية والحق الفلسطيني ليست فقط ضد آلة الحرب الإسرائيلية، بل أيضاً ضد هرطقات تحاول شرعنتها، سواء في خطاب سياسي أو في ثوب قاضٍ يدّعي تمثيل العدالة الدولية، وكأن الدم الفلسطيني لم يعد يحتاج إلى أدلة، بل إلى أنبياء زائفين يباركون المذبحة باسم السماء.