5:39 مساءً / 15 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

حين تتحول الكلمة إلى شاهد ، قراءة في قصيدة المتوكل طه “الصحفي يوثّق موته” ، بقلم : محمد علوش

حين تتحول الكلمة إلى شاهد ، قراءة في قصيدة المتوكل طه "الصحفي يوثّق موته" ، بقلم : محمد علوش

حين تتحول الكلمة إلى شاهد ، قراءة في قصيدة المتوكل طه “الصحفي يوثّق موته” ، بقلم : محمد علوش

في قصيدته «الصحفي يوثّق موته»، المنشورة في جريدة “القدس” يوم الجمعة 15-8-2025 يقدم الشاعر الفلسطيني المتوكل طه تجربة شعرية استثنائية، تمتزج فيها المأساة الإنسانية بالبلاغة الفنية، والواقع السياسي بالبعد الوجودي، فالنص لا يكتفي برصد الحدث، بل يحوّل الموت إلى لغة، والكاميرا إلى مرآة للألم، ويجعل من الشهادة فعلاً شعرياً، واحتضاناً للذاكرة الجماعية.


يفتتح النص بلحظة مشحونة بالتوتر والوعي الوجودي:
“كانت الصورةُ تقتربُ، والرصاصةُ أسرعُ،
كان الضوءُ ينسابُ في عيني،
كأنني أفتح نافذةً على موتي.”


هذه البداية تكثف التوتر بين الحياة والموت، وتكشف عن قدرة المتوكل طه على توظيف الزمن الشعوري، إذ يجمع بين الفعل الحاضر والمستقبل المحتمل، بين القتل الفعلي وما سيتركه من أثر، فالفعل الشعري هنا يوازي الواقع السياسي، ويجعل القارئ يعيش اللحظة كأنها حاضره المباشر.


تتجلّى براعة المتوكل طه في تحويل التجربة الفردية إلى مشهد إنساني شامل، حيث يصبح الصحفي رمزاً لكل الشهداء، وللكلمة المهددة بالمحو، يقول النص:


“لم يبقَ له ظلٌّ، والأحرفُ راحت تتصادى وتنوءُ.. وكان العالَمُ يتفرّجُ كيف يموتُ الصحفي بغزّة!”
إن العبارة تمثل تصويراً رمزياً للصمت الدولي والمشاهدة دون تدخل، حيث يمحى الضحية والأثر معاً، لكن اللغة الشعرية تعيد الحياة إلى الحدث، وتمنح القارئ إدراكاً مباشراً للحظة الموت والعدالة المفقودة.


تتداخل الرمزية والبلاغة في النص بشكل متقن، فتصبح الكاميرا ليس مجرد أداة تقنية، بل رمزاً للضمير الإنساني والمقاومة، كما يشير الشاعر:


“الصورةُ وصلتْ، ويريدُ لها القاتلُ أن تصبحَ بيضاءَ، وتبقى المذبحةُ بعيداً عن عينِ الحُرّاسِ، شُهودِ الحقِّ، بلا غاياتٍ..”
البياض هنا ليس نقاءً، بل محاولة محو التاريخ والشهادة، بينما تبقى الكلمة أداة كشف وفضح، والقصيدة تعكس هذا الصراع بين الحجب والإظهار، بين القوة والعدالة الأدبية.
الإيقاع الشعري للنص متقلب ومشحون، يتأرجح بين الانكسار والانفجار، بين التوقف والتسارع، بحيث تتجسد فيه حالة الرعب والحركة المتواصلة في الحروب، فالصور الشعرية كثيفة ودرامية:


“سمعتُ قلبي يلتقطُ أنفاسه،
وسمعتُ الكاميرا تلتقطُ آخر ما تبقّى من الضوء.”


في هذه الأسطر، يمزج المتوكل طه بين الحواس، ويجعل الموت تجربة حسية كاملة، وليس مجرد حدث مروي، ما يرفع النص إلى مستوى البلاغة التعبيرية العالية، ويجعل القارئ يلامس الألم وكأنّه جسده الخاص.


ويستمر النص في توسيع المشهد الإنساني ليشمل كل من يحاول المقاومة أو الدفاع عن الحقيقة:
“قد يتكوّمُ رجلٌ آخر إنْ حاولَ إنقاذَ الصحفيّ، وإنْ وصلَ المشفى، فالقصفُ لكلِّ عيادات المبنى!”
هنا يتحول النص إلى وثيقة شعورية عن الاستهداف الممنهج، وعن معاناة المدنيين، كما يصبح المشهد شعرياً وفلسفياً في آن، مؤكداً أن الكلمة والعدسة قادران على مواجهة الموت.


في نهاية النص، يقدم الشاعر الصحفي في صورة رمزية منتصرة، إذ يعود من بين الرماد ليثبت أن الحقيقة لا تموت:
“… وعاد الصحفيُّ بكلِّ السَرديّاتِ.. ليثبتَ أنَّ بيانَ النصرِ سيتلو تقريرَ الإثبات.”


بهذه النهاية، يتجلّى الإبداع الشعري للمتوكل طه، الذي يحوّل الألم والفقدان إلى قصيدة حية، تحمل قيمة فنية وإنسانية عالية، وتعكس تجربة شعرية متكاملة، تتميز بالجمع بين الرؤية الواقعية والبعد الرمزي، وبين المأساة الفردية والذاكرة الجماعية، وبين السياسة والوجود.


التجربة الشعرية في هذه القصيدة لا تقتصر على تصوير الواقع الفلسطيني، بل تتجاوز ذلك لتصبح قراءة فلسفية للحياة والموت، للكلمة والصورة، وللشهادة والتوثيق، فقد استطاع الشاعر أن يخلق نصاً قادراً على مواجهة الزمن والرصاص، نصاً يربط بين الفرد والوطن، بين الحدث التاريخي والبعد الشعوري، ويجعل من الشعر فعل مقاومة ومعرفة، ومن الكلمة صرخة أبدية في وجه الظلم.


إن هذه القصيدة شهادة حية على قدرة الشعر الفلسطيني المعاصر على التعبير عن المأساة والبطولة في آن واحد، وعلى براعة المتوكل طه في صياغة نص شعري متكامل يجمع بين الحس الإنساني العميق، والفكر البلاغي الراسخ، واللغة الشعرية الخالدة، لتبقى الكلمة حيّة، وتوثّق موتاً يتجاوز الفرد ليصبح ذاكرة وطنية وإنسانية خالدة.

شاهد أيضاً

قائد قوات الأمن الوطني يُجري جولة تفقدية للاطلاع على الاوضاع في مخيم برج البراجنة بلبنان

قائد قوات الأمن الوطني اللواء العبد ابراهيم خليل يُجري جولة تفقدية للاطلاع على الاوضاع بمخيم برج البراجنة في لبنان

شفا – قام قائد قوات الأمن الوطني في الوطن والشتات سيادة اللواء بحري العبد ابراهيم …