
عاصفة فكرية ، قراءة وجدانية ، في نص هند هاشول راشد ، بقلم : رانية مرجية
ما أصدقَ ما كتبتهُ الشاعرة هند هاشول راشد في نصها “عاصفة فكرية”، وما أوجعَهُ!
إنّه نص ينهش القلب بهدوء، ولا يُهدّئ العقل، بل يوقظهُ برجفة الأسئلة الكبرى. فليس هذا مجرّد تأمل عابر في الموت، بل هو عصفٌ داخلي، صرخة وعيٍ مرتطمٍ بذاته، وصراعٌ بين الروح التي تطمح إلى الأعالي والجسدِ الذي يُردُّ إلى التراب. نصّ لا يُهادن، ولا يطلب العزاء، بل يستفزُّنا لننظر في عيون الفراغ، ونحاور ذواتنا حين نخافها ونرتطم بها.
تبدأ الشاعرة باعترافٍ صادم:
“ها أنا ذا من جديد أرتطم بذاتي”
وما أندر من يعترف بالارتطام الذاتي، فالأغلب يلوذون بالهروب أو الإنكار، أما هنا، فثمة شجاعة وجودية تُعري الذات وتضعها في مواجهة الأسئلة التي لا إجابة لها. من اللحظة الأولى، نحن لسنا أمام قصيدة رثاء، بل أمام نشيد فلسفي عن حقيقة الفناء، عن العدم، عن ذاك “السبات العميق” الذي لا نعرفه إلا حين نغادره ولا نعود.
رهبة الموت وسؤال الحواس
تطرح الشاعرة تساؤلًا يتجاوز الطرح التقليدي عن نهاية الحياة:
“ما سرّ رهبة الموت وخفاياه؟!”
إنّه سؤال لا يُجاب عليه إلا بالصمت، لكنها ترفض الصمت، وتُكمل بحدة:
“حين يخلعك الحلم، ويتخلى عنك الفكر، كما تهجرك كل الحواس”
هنا تخلق الشاعرة لحظة شعرية مرعبة: هل الموت هو فقدان الفكر؟ الحواس؟ الحلم؟
أم أنّه لحظة التخلي الكلي من كل ما كان يُشكّل كينونتنا؟
ثم يتفجّر سؤال آخر، أعنف وأصدق:
“هل تسافر حواسّنا على متن الروح محلّقةً معها نحو الأعالي؟
أم أنها تتراقص وأجسادنا بين ذرات التراب؟!”
يا الله، كم هو مؤلم أن يُطرح سؤال كهذا بهذه البساطة العميقة.
إنّه سؤال علمي، ميتافيزيقي، شعريّ، ووجدانيّ في آنٍ واحد.
وفي الحقيقة، نحن لا نعلم.
نحن لا نعلم ما إذا كانت أرواحنا تُحلّق، أو حواسّنا تُبعثر.
لكن الشاعرة لا تسعى إلى اليقين، بل إلى إثارة هذا القلق الإنساني المشروع.
عبثية الفقد: من ذا الذي سيفتقدك؟
“من سوف يفتقد غيابك؟”
“من ذا الذي أراد وجودك بقربه، لمدة أطول؟!”
إنه استفهام لا يبحث عن إجابة، بل عن عتاب.
تُلامس الشاعرة هنا واحدة من أعنف الحقائق:
أن وجودنا، مهما بدا ثمينًا، قابلٌ لأن يُنسى.
أنّ الحزن على الغياب غالبًا ما يكون لحظةً قصيرة، تتبخر بحرارة الحياة اليومية.
“البعض سيذرف الدموع لفترة وجيزة بعد رحيلك،
وسوف تتدفق حرارة اشتياقهم لك بين الجدران الباردة،
لكن ما الجدوى من ذلك حين لا تكون؟!”
هذا المقطع ذروة النص.
أقصى درجات العجز، واللاجدوى، والتمزق بين الاحتياج الإنساني للحبّ والاعتراف، وبين استحالة تلقيه بعد الموت.
إنها ليست مجرد خواطر سوداوية، بل تأملات نابعة من تجربة روحية وجودية، تُقارب الموت لا بوصفه نهاية جسدية، بل كتحوّل كياني، كموتٍ للتواصل، للحلم، وللأمل في أن تُحسّ بشيء.
“حين لا تشعر بشيء!”
هكذا تنتهي القصيدة، بانهيار الأمل، أو بالأحرى، بانكشافه كأُمنية لا تستقيم في مواجهة الموت.
في الختام: النص كمرآة لعاصفة الإنسان
ما كتبته هند هاشول راشد هو أكثر من قصيدة.
هو مرآة لعاصفة الإنسان عندما يقف وحيدًا أمام المجهول.
نصّ يتغلغل فينا، لا ليدمّرنا، بل ليفتح الباب على مصراعيه للتفكير الجاد، لا عن الموت فقط، بل عن الحياة التي تسبقه.
ولعلّ عظمة هذا النص تكمن في صدقه، في بساطته المركّبة، في تلك الهمسات التي تطرح أعقد الأسئلة دون ادّعاء، بل بهمٍّ وجوديّ خالص، قلّ نظيره في كتاباتٍ كثيرة.
نصّ كهذا لا يُقرأ مرة واحدة.
بل يُعاد مرارًا، كلما ارتطمنا نحن أيضًا بأنفسنا، وسألنا من جديد:
ما الذي سيبقى بعدنا؟
ومن ذا الذي، فعلًا، أرادنا بجانبه لفترة أطول؟
رانية مرجية
8 آب 2025 – الرملة