
“هنا”… قراءة نقدية في مرآة الحريق ، نصّ للشاعر العراقي جنان السعدي ، بقلم: رانية مرجية
في زمنٍ يُرفع فيه البائعون على الأعناق، ويُسجن الحالمون في الزوايا المعتمة، تفيض قصيدة “هنا” للشاعر جنان السعدي بما يشبه المرآة المحطّمة، التي تُجبرك على رؤية وجهك – أو وجه وطنك – مقسومًا بين الألم والسخرية، بين القهر والمكابرة، بين النفاق والتسليم.
هذه القصيدة ليست ترفًا لغويًا ولا ممارسة بيانية، بل بيانُ تمردٍ ضد ثقافةٍ اختارت أن تقدّس السطحي وتُصلب العميق، أن تهتف للزعيم وتُخرس العقل، أن ترفع اللافتات وتُداس المبادئ.
منذ المطلع:
“إن شئتَ صلِّ وصُمْ
وإن لم تشأْ لا يهم”
نُلقى في عالم عبثيّ، تُمارس فيه الحرية كشكلٍ زائف، وتُداس فيه القيم الحقيقية إن اقتربت من “الخطوط الحُمر”. هنا، الصوم والصلاة لا يُشكلان خطرًا، أما التفكير الحرّ فهو تهمة، والمساءلة خيانة، والمبدأ حتفٌ مُحقق.
الشاعر يرسم عبر مشاهد متسلسلة خريطةً لواقعٍ عربي مأزوم، تُختصر فيه السلطة في “المال العائم في جلباب المسؤول”، ويُرفع “كُرسي الحكم” فوق كل مقدّس. النصّ يصوغ هذا السقوط القيمي بلغته المتينة، الحادّة، المغموسة في مفردات الواقع اليومية دون أن تفقد بُعدها الرمزي.
“كُنْ ما شئتَ
سائسَ قطيعٍ مخمورٍ
لاعبَ روليتٍ
أو بائعَ تفاهةٍ مشهور”
هكذا يُطلق السعدي صفارات التحذير في وجه مجتمعٍ يحتفي بالبذاءة والتفاهة، بينما يُقصي كلّ من حمل وردة أو طبشورة أو كتابًا. في مشهد شعري قاتم، يُجَرَّم التربوي والمفكر، بينما يُكافأ الانتهازي وتاجر الموت.
ثمّ يأتي البيت الذي يمكن اعتباره لبّ القصيدة وأحد مفاتيح قراءتها:
“المبدأُ خازوقٌ يُصلبُ فيهِ الإنسانُ”
هنا تبلغ اللغة أوجها من القسوة والوضوح، وتُختزل بها تجربة جيل كامل عاش اغتيال المبدأ، وتقديس الخنوع. فلا عجب أن يُدفن المبدأ في زجاجة ويُلقى في النهر.
وفي ختام النص، لا يتنازل السعدي عن الحلم، لكنه لا يجمّله. يُشير إلى “جمرٍ تحت رمادٍ متّقد”، وإلى “فحيح النار في التنور”، بما يوحي بأن الانفجار قادم، وأن الصمت الطويل ليس سوى مؤقت.
“هنا” ليست قصيدة فحسب، بل مرآة غاضبة تنقل وعينا من منطقة السكون إلى منطقة الأسئلة القاسية.
إنها صرخة في وجه العار الجمعي، حيث يُصبح النفاق دينًا، وتُرفع التماثيل على أنقاض الفكر.
وفي زمن تتحوّل فيه القصائد إلى أناشيد طاعة، تأتي هذه القصيدة كخنجر في خاصرة الزيف، وكنداءٍ أخير لأصحاب الضمير كي لا يغفوا بين “السطور” ولا يبيعوا “المبدأ” في زجاجات السوق السوداء