
سمير غوشة.. البوصلة التي لا تنكسر والقائد الذي أنشأ جيلاً بأكمله ، بقلم : محمد علوش
في الثالث من آب من كل عام، تتجدد الذكرى وكأنها فجر يطلّ على ذاكرة فلسطين الجريحة.. نستحضر القائد المؤسس الدكتور سمير غوشة، فنجد أنفسنا أمام رجل لم يكن مجرد قائد سياسي أو طبيب مقدسي حمل هموم مدينته، بل مدرسة متكاملة في الفكر والممارسة الثورية، وأباً ورفيقاً ومعلماً شكّل بصلابة مواقفه وعمق رؤيته ملامح أجيال كاملة.
ست عشرة سنة مضت على رحيله، لكن غيابه ما زال يترك فراغاً يتسع يوماً بعد يوم، كلما اشتدت الأزمات والانقسامات التي كان يحذر منها، فنزداد يقيناً أننا فقدنا قائداً نادراً امتلك البصيرة والرؤية الواضحة، وعرف كيف يحوّل التحديات إلى فرص انبعاث.
منذ النكسة عام 1967، كان د. سمير غوشة من القلائل الذين أدركوا أن لحظة الانكسار يجب أن تتحول إلى لحظة انبعاث، وأن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى قراره المستقل بعيداً عن الوصاية والارتهان.
قرأ الهزيمة قراءة مختلفة، فرأى فيها دافعاً لبناء المشروع الوطني بعيداً عن الارتهان الرسمي العربي، ومن هذا الوعي العميق ولدت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، لا كفصيل عابر، بل كإطار وطني جامع يزاوج بين الكفاح المسلح والعمل السياسي والاجتماعي والثقافي، ويرفع راية المقاومة والقرار الوطني الحر.
لم يكن ينظر إلى النضال بوصفه مواجهة عسكرية فقط، بل مشروعاً متكاملاً لتحرير الأرض والإنسان معاً، فحملت الجبهة منذ بدايتها البعد الاجتماعي والاقتصادي إلى جانب البعد المقاوم، وظل هذا المزيج هو البوصلة التي ميّزت فكره ووضعت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني على خارطة الفصائل التي لم تتخلّ يوماً عن ثوابتها.
لكن الحديث عن د. غوشة لا يمكن أن يظل في حدود السياسة والتنظيم وحدهما، فنحن الذين عشنا معه عن قرب نعرف أنه كان قائداً يعرف أسماء رفاقه واحداً واحداً، يتفقد أحوالهم كأبٍ يحرص على أبنائه، فكان يفتح قلبه قبل مكتبه، يستمع بتواضع وصبر، يزرع فينا القيم التي لا تبهت مع الزمن: الالتزام، الانضباط، الوعي، الصلابة في الموقف، والمحبة الصادقة للوطن ولرفاق الدرب.
كم من مرة جلس معنا حتى ساعات الفجر وهو يناقش تفاصيل العمل التنظيمي الصغيرة والكبيرة بنفس الحماسة، ثم ينطلق معنا إلى جولات التنظيم داخل المخيمات والأحياء الشعبية، غير آبه بالتعب أو المخاطر، فكان القائد الذي لا يأمر من بعيد، بل يعيش بين رفاقه ويقاسمهم الخبز والمخاطر والأمل، وكان يردد دائماً: “المناضل الحقيقي هو من يحفظ كرامة رفاقه قبل أن يحفظ موقعه”، وكانت هذه القاعدة هي ميثاقنا في العمل اليوميّ.
أجمل الذكريات التي نحملها معه ليست محصورة في المناسبات الكبرى، بل في تلك اللحظات التي تكشف جوهره الإنساني، وهنا أتذكر كيف كان يقف في الصفوف الأولى خلال المواجهات والمخاطر، وكيف كان يمازحنا بابتسامة وسط التعب قائلاً: “من اختار طريق النضال.. لا يملك ترف الاستسلام”.
لم يكن القائد الذي يسكن برجاً عاجياً، بل الأب الذي يعيش بين أبنائه ويتقاسم معهم المرارة والأمل، وفي المنافي البعيدة كان يتفقد الرفاق الذين أنهكتهم الغربة، يطمئن على عائلاتهم، ويشدّ على أيديهم بأن فلسطين تنتظرهم، وأن العودة حق لا يسقط بالتقادم.
لقد أدرك د. غوشة خطورة الانقسام الفلسطيني قبل أن يتحول إلى مأساة وطنية، ولم ينجر يوماً وراء الاصطفافات الإقليمية أو المغانم الضيقة، بل ظل يرى أن الوحدة الوطنية شرط وجودي لأي مشروع تحرري، حيث دافع باستماتة عن دور منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، لكنه في الوقت نفسه كان من أوائل من دعوا إلى إصلاحها وتطويرها لتستجيب لطموحات الشعب.
في كل محفل عربي أو دولي، كان صوته عالياً دفاعاً عن الحق الفلسطيني، حيث رفض المساومة على الثوابت، وكان يقول لنا دائماً: “فلسطين ليست ورقة تفاوض، بل وطن نحمله في دمنا”، وهذه العبارة بقيت شعاراً لنا في كل محطة نضالية.
إن استذكار القائد المؤسس لا يكتمل بمجرد رفع صوره أو كتابة الكلمات في ذكراه، فالوفاء الحقيقي هو أن نعيد الاعتبار للقيم التي عاش من أجلها: الالتزام قبل الشعارات، والوحدة قبل التنازع، والمشروع الوطني قبل المصالح الفئوية، وإنّ إرثه ليس محفوظاً في أرشيف الجبهة فقط، بل حيّ في ضمير كل رفيق ورفيقة تعلّموا منه أن العودة حق لا يسقط بالتقادم، وأن المقاومة شرف لا تهمة.
سلام عليك يا قائدي ومعلمي، يا من زرعت فينا القدرة على مواجهة العواصف بثبات الجبال، وستبقى المدرسة التي أنشأتها منارة نهتدي بها، وستبقى كلماتك حاضرة كلما حاول اليأس أن يتسلل إلى قلوبنا، وسنظل نعمل من أجل أن تبقى جبهتنا قوية وموحدة كما أردتها، وأن تبقى منظمة التحرير الفلسطينية بيتنا الجامع حتى يتحقق حلم شعبنا كاملاً غير منقوص، ونرفع علم فلسطين على أسوار القدس التي أحببتها حتى آخر لحظة.
لقد كنت البوصلة التي لا تنكسر، وسنظل أوفياء لهذا الإرث حتى النهاية.