
أصحاب الأرض ، بقلم : خليل إبراهيم أبو كامل
في زمنٍ تتبدل فيه الخرائط وتُسطّر السّيارات الأجنبية أسماء الشوارع، يبقى “أصحاب الأرض” عنوانًا لا يُمحى، وحقًا لا يُشترى، وانتماءً لا يُساوَم عليه. هم الذين ولدوا من رحم هذه التربة، الذين تنفّسوا هواءها، وحملوا حجارتها في حقائبهم حين أُجبروا على الرحيل، وما خانوا الوعد يومًا بالعودة.
أصحاب الأرض ليسوا فقط أولئك الذين سكنوا البيوت قبل النكبة، بل هم أيضًا من واصلوا البناء رغم الركام، وحفروا في الصخر نفقًا إلى الضوء. هم الفلاحون الذين زرعوا البذور رغم الجدران، والصيادون الذين ما زالوا يبحثون عن البحر في زمن الحصار، والنساء اللواتي ربّين أبناءهن على وقع الأمل لا على أنين القهر.
أن تكون “صاحب الأرض” لا يعني فقط أن تمتلك الطابو، بل أن تحمل في قلبك ذاكرة الجغرافيا، وملح التاريخ، وأن تمشي في الأزقة وأنت تُسلّم على الحجارة كأنها أصدقاء الطفولة. أن تحفظ أسماء الأشجار والينابيع والشهداء. أن تكون حاضرًا حين يغيب الجميع.
في فلسطين، لا يُقاس الانتماء بعدد السنوات التي عشتها في المكان، بل بعدد المرات التي قاومت بها محاولات اقتلاعك. فكل فلسطيني وُلد في الشتات، وكتب اسم قريته في دفتره المدرسي، هو صاحب أرض. وكل أمّ غسلت جراح ابنها بماء العين، هي صاحبة الأرض.
يُحاول الغازي أن يُعيد رسم الحكاية، أن يُلغي اسمك من السجلات، ويضع مكانه رقمًا، أو أن يُبدّل أسماء المدن والقرى والجبال، لكنه يجهل أن كل اسمٍ جديدٍ مفروض، لا يُمكنه اقتلاع المعنى الأصلي. فـ”صفد” ستبقى صفد، و”يافا” يافا، و”اللد” و”الرملة” و”حيفا” ستظل تنبض بأسمائها الأولى، مهما حاولوا تزوير الذاكرة، لأن الأسماء مثل الأرض، لا تُنسى.
لأن الأرض تشبه أصحابها، لا محتليها.
تشبه ملامحهم، سمرتهم، صبرهم الطويل، وجذورهم الضاربة في العمق. لا تُشبه الوافد الطارئ، ولا الغريب المدجّج بالخوف. الأرض لا تمنح دفئها لمن لا ينتمي، ولا تحفظ خطوات من يدوسها بسلاح.
هي وفية فقط لمن يرويها بالحبّ والتعب، ويُناديها باسمها الأول دون تزوير.
فمهما حاولوا تغيير ملامح الخريطة، وتزوير الحكاية، وتبديل المسميات، ستبقى الأرض فلسطينية.
الاسم، والرائحة، والملامح… كلّها تشهد: نحن أصحاب الأرض