
رغيف الزعتر ، حين تصير اللقمة قصيدة تُخبز على نار الكرامة ، بقلم: رانية مرجية
ليس كل ما يُؤكل يغذّي الجسد فقط، فبعض الأرغفة تفيض بمعانٍ لا تشبع منها الأرواح. هكذا هو رغيف الزعتر، كما قدمته لنا الباحثة الفذة ازدهار عبد الحليم الكيلاني، لا بصفته طعامًا، بل كوثيقة مكتوبة بلغة الصبر، وممهورة ببصمات أيدٍ لم تعترف يومًا بالهوان. هو ليس خبزًا، بل سيرة ذاتية، لا لفرد، بل لشعب. لا لحقبة، بل لتاريخ بأكمله نُسِج من عرق الجباه، وورثته الجبال للناس مثلما يورث الحكيم وصاياه لأبنائه.
رغيف الزعتر هذا، حين نتأمل رحلته التي تبدأ من حضن الجبل وتُختتم في كفّ عاملٍ أو فلاحة، ندرك أن كل خطوة فيه ليست إلا صلاة من نوع آخر. القطف، التجفيف، الطحن، الخلط، العجن، الخَبز… كلها ليست مراحل إنتاج بل طقوس وجود. كل نبتة زعتر تُقطف بعناية هي كأنها سطر من حكاية كُتبت في دفتر الأرض. وكل حبة قمح تُطحن هي شهادة ميلاد لكرامة لا تعرف الانكسار.
هل الزعتر مجرد نكهة؟ لا. هو رائحة الطفولة المغموسة بالندى، هو أنفاس الأمهات فوق المناديل المطرّزة، هو الأخضر الذي قاوم الرماديّ في كلّ زاوية من هذا الوطن المنهك. أما السماق، فهو ذاكرة اللسان حين كان طعم الفقر مشوبًا بعزة لا توصف، والسمسم هو تلك الحبيبات الذهبية التي تحرس صحة الجسد كما تحرس النساء ذاكرة البيوت.
رغيف الزعتر في نص الكيلاني يتجاوز الخبز ليصبح مرآة للهوية. وجهه المتغضّن يشبه وجه فلاح هدّه التعب، لكن لم تهزمه الحياة. خطوطه هي جغرافيا الوطن على سطح طري. حوافه المحروقة تهمس: نعم، احترقنا مرات، لكننا بقينا. رغيف الزعتر لا يُؤكل فقط، بل يُقرأ، ويُبكى عليه، ويُبتهل له. هو ما تبقى من قداسة الأشياء البسيطة في عالم يركض خلف الزيف.
المرأة في هذا النص ليست ظلًا، بل جوهر. في صمتها أثناء القطف، في دقة يديها أثناء الطحن، في دمعتها حين ترى الرغيف يخرج من الفرن، نقرأ رسالة لم تُكتب بالحبر، بل بالملح والدقيق. هي ليست فقط من تصنع الرغيف، بل من تحرس ناره، وتحفظ سره، وتسلمه لمن بعدها، تمامًا كما تُسلّم الشعوب أعلامها لمن يكمل الطريق.
وما الأرض في هذا السياق إلا كائن حيّ، أمّ ثانية، تُرضع أبناءها من ندى زعترها، وتخبز لهم أحلامهم على صفيح الفرن، لتقول لهم: “من تشبّث بي، نجا. ومن نسي ترابي، ضلّ طريقه”.
لقد منحتنا الكيلاني رغيفًا غير مألوف. رغيفًا يُغنّي ويُفكّر. رغيفًا يقول:
“الكرامة لا تأتي مع المعلّبات. لا تولد من الأسواق. بل تُروى بعرق الفلاح، وتُطعّم بيد الأم، وتُختتم برائحة الخبز الطازج.”
الرغيف هنا ليس نهاية الرحلة، بل بدايتها. لا هو غداء، ولا هو فطور، بل هو نشيد مكتوب بالعجين، وموقّع بحبر الكبرياء. وفي زمن يشكو من ضياع الرموز، من هشاشة المعاني، من فقدان العمق… يأخذنا رغيف الزعتر إلى حيث كنّا نحن قبل أن نفقد أنفسنا في زحمة العالم.
في كل لقمة منه دعاء، وفي كل حرقٍ على حافته حكاية، وفي كل رائحة منه وطن يُصرّ على أن يواصل الحياة رغم كل ما يحاصره.
رغيف الزعتر… هو أبسط الحقوق، وأعظم الرموز، وأقدس النِعَم.