12:06 صباحًا / 18 يوليو، 2025
آخر الاخبار

البنية الضميرية في قصيدة رسالة من الزنزانة “إلى أمي” للشاعر عبد الناصر صالح ، بقلم د. مريم أبوبكر

البنية الضميرية في قصيدة رسالة من الزنزانة “إلى أمي” للشاعر عبد الناصر صالح ، بقلم د. مريم أبوبكر


يؤسس الشاعر عبد الناصر صالح داخل أبعاد جدران القيد منظومة متكاملة من الضمائر تتنوع بين المتكلم والمخاطب والغائب, ويعيد تشكيلها أحيانًا بوصفها أداة لغوية تُسهم في بناء بيت القصيد, وتتداخل الضمائر لينسج الشاعر شبكة من الأصوات تعكس تعدد الوعي وتداخل الذات مع الآخر وجوهر تجربة شعرية تكشف رؤيته لنفسه وللآخر وللكون, ولا تعمل الضمائر في النص الشعري بوصفها أداة لغوية وحسب لكنها تتحول إلى مرايا للوعي الشعري يدرك الشاعر من خلالها ذاته, وهذا الوعي يتجلى في ضمير المتكلم ضمن بنية النص وصورته.


يعيد الشاعر تنظيم الكون من خلال وعيه الشعري, وفي عمق الوعي تتكشف الذات الشاعرة وجزء من الوعي بالآخر في سيطرة على توازن الإيقاع بين الأنا والهُوَ, ليتأمل الشاعر ذاته في الآخر ويرى الآخر فيه, ويستعمل استراتيجية شعرية يعبر لنا من خلالها عن التحول الداخلي لذاته, فيمنح النص عمقًا وجدانيًا فريدًا, تجسد في توظيف ضمير المتكلم, في حين ينفصل الشاعر عن ذاته بكامل وعيه الشعري ليتأملها أو يتقمص الآخر أو ليهرب منها, وقد تصبح “الأنا” التي تتحدث في البداية “أنت” أو “هو” لاحقًا.


يستهل عبد الناصر صالح المقطع الشعري بضمير الغائب في “الموكب/ طريقه” والذي تجسد في المرآة البعيدة حيث ينظر الشاعر إلى الكون من خارج ذاته, يرصد لنا المشهد كما لو كان على سطح مرآة الغياب, يناظر الشاعر وطنه فلسطين من داخل جدران السجن, يراقب من بعيد, وهنا يظهر ضمير المتكلم المفرد “رأيت” في تحول يمثل لحظة اندماج الشاعر بالمشهد بعد أن كان راصدًا له من خارج ذاته, ليعود إلى الذات الواعية, لحظة يلتقي الشاعر بنفسه وأثناء انتقاله من الغائب إلى المتكلم, من “هو” إلى “أنا”, ليعكس لنا مدى التشظي في الهوية الشعورية؛ إذ لا ثبات بين ضمائر تتحرك صورتها في مرايا مهمشة مهشمة, وفي “طلعتك الندية” إشارة إلى المخاطب “أنتِ” بغير مباشرة نتج عن حضور الطلعة الندية, فالغائب يُخاطَب ضِمْنًا ويعود طيفًا لا يحيد, يقول الشاعر:


المَوْكِبُ المَوْعودُ شَقَّ طريقَهُ عَبْرَ البِحارْ
وَسَرى.. تُعانِقُهُ النَّسائِمُ والمَحارْ
ورأيتُ طَلْعَتَكِ النَّدِيَّةَ من بَعيدْ
مَثُلَتْ أَمامي مثلَ طَيْفٍ لا يَحيدْ..


وبين الحضور والغياب يخاطب الشاعر أمه “أماه” وطنه “فلسطين” بأسلوب نداء موجه نحو غائب حاضر, ما خلق توترًا شعوريًا بين واقع الشاعر وما ينبغي أن يكون عليه, ليتساءل “هل تسمعين؟” ثم يتمنى “ليتك تسمعين”, وهنا ضمير المخاطب “أنتِ” يشير إلى رغبة في التواصل رغم كثرة المآسي وألم الفقد, ثم ينتقل الشاعر إلى ضمير المتكلم في “ندائي” و “يأتي إليكِ” ليكشف عن ذات واعية تنزف شوقًا, يتجاوز جدران السجن والغياب, ويتحول من “أنتِ” إلى “أنا”, فضمير المخاطب يمثل مرآة الآخر المنعكسة في داخل ذات الشاعر, يسكن وعيه ظل حاضر لا يغيب, وفي المرآة بعيدة الظل يعرض لنا الشاعر وعبر ضمير الغائب الضمني في “الطيور الباكيات”, و “المطر المحلق”, صورًا رمزيةً تحمل جزءًا من “أنا” الشاعر لتنقلها إلى “أنتِ” الأم “الوطن”, فالشاعر جزء من الكل وطنه فلسطين, وعبر مرايا الوجود “الطيور, المطر, الجدار” دار حوار خفي بين “أنا” المنكسرة, و”أنتِ” الغائبة؛ إذ ينادي الشاعر أمه “وطنه فلسطين” قائلًا:


أُمّاهُ يا لحنَ النّهارْ
هل تَسْمَعينْ؟
القَلبُ يَخْفُقُ والتَّشَوُّقُ والحَنينْ
أُمّاهُ لَيْتَكِ تَسْمَعينَ نِدائيَ المَلْهوفَ يَخْتَرِقُ الجِدارْ
يأتي إليكِ معَ الطُّيورِ الباكياتِ على الدِّيارْ
يأتي معَ المَطَرِ المُحلِّقِ فَوقَ أَطلالِ المَآسي والأَلَمْ


جاء ضمير المخاطب “أنتِ” في ” أُمّاهُ يا لَحْنَ النَّهارْ ” في خطاب الشاعر لــــ “أمه” وطنه فلسطين مباشرًا مفردًا يعكس حالة نفسية متأرجحة بين الحنين للوطن والمعاناة الذاتية عبر ضمير الغائب “هو” في ” سوْداءُ تَلْتَحِفُ المَنونْ”؛ لتصوير المعناة وكأنها تغشى انعكاس شخص آخر في مرآة الذات المتشظية والموت سيد الموقف!, وكان قد انتقل الشاعر يستعمل ضمير المتكلم “أنا” في ” أنّاتِيَ الحَرّى” متحدثًا عن نفسه لا يذكرها صراحة إنما اكتفى بالإشارة إليها ضمنًا يصف الحرية المبتغاة من جدران القيد شديدة الألم والظلم؛ في قوله:


أُمّاهُ يا لَحْنَ النَّهارْ
هل تسمَعينْ ؟
أنّاتِيَ الحَرّى بأَقْبِيةِ السُّجونْ
لا شيءَ غيرُ الليلِ والقيدِ الكبيرْ
وَمصائبُ الزّمنِ العَسيرْ..
سوْداءُ تَلْتَحِفُ المَنونْ


ومن داخل جدران السجن ينادي عبد الناصر صالح “أمه” وطنه فلسطين يرجو الإصغاء أو حضور الآخر مانحًا إياه معاني الصبر والصمود والثبات في ترنيمة وجدانية تعزز ارتباط الشاعر بأصوله وجذوره والهوية من خلال ضمير المخاطب “أنتِ”, ومع اشتداد الحنين يأتي ضمير المتكلم المتصل في “سجني, وجهي” وضمنيًا في “المآقي” تأكيدًا على المعناة الشخصية, بينما جاء ضمير المتكلم “أنا” مكررًا في “أنا وأنتِ” “أنا وأنتِ” في مشهد يدل على إصرار الذات وتمسكها بهويتها وجذرها وأصولها الفلسطينية وتمسكها بالكرامة وفيض من الصبر رغم القيد, يقول الشاعر:


أُمّاهُ ليتكِ تَسمَعينْ
القلبُ يَخْفُقُ والتشَّوُقُ والحَنينْ
لكنّني أُمّاهُ مَهْما طالَ سِجْنيَ لن أهونْ
أُمّاهُ إني لنْ أَهونْ..
وَبَريقُ وَجْهِكِ في المآقي كالنّهارْ
كالموْجِ يَعْتَنِقُ المَحارْ..
لا.. لَنْ أَهونْ
فأنا وأَنتِ عَلى انْتِظارْ..
فأنا وأَنتِ على انْتِظارْ..


تنقل الشاعر عبد الناصر صالح بين الضمائر في قصيدة رسائل من الزنزانة ” إلى أمي ” ضمير المتكلم والمخاطب والغائب مُشكلًا بنية وجدانية عَبّر فيها عن الصراع بين الألم والصمود, يخاطب الشاعر “أمه” وطنه فلسطين يطرح كثيرًا من الأسئلة, ويكرر النداء بصوت خفي ليؤكد التعلق بوطنه, يصر على الثبات فهو لن يهون؛ ما عكس قوة ذاتية بوعي حاضر لا يغيب, فحضور الآخر “الأم” الوطن فلسطين يكشف عن عمق العاطفة والتمسك بالأمل.


وبين تشظي الذات وتكاملها تعيد الضمائر تشكيل الوعي بين الأنا والآخر, وهذا التداخل يعكس رحلة وجدانية داخلية تحول تلك المعاناة إلى لغة مقاومة ومخزون ذاكرة وانتظار يتجاوز الشاعر من خلالها حدود السجن والسجان تمنحه مزيدًا من الصلابة والثبات, وتكشف عن صدى داخلي يتردد بين “أنا” الموجوعة و”أنتِ” المفقودة, برموز الطبيعة التي تحمل الألم نيابة عن الشاعر.


المرجع
الخطيب, أحمد, وأبو حمادة, عاطف, وأبو صاع, أشرف, ونزال, حسان, ومعالي, صالح, وطحيمر, نائل (2020): اللغة العربية. ط2, فلسطين: وزارة التربية والتعليم, مركز المناهج الفلسطينية, ج2, ص56


وقد كتب الشاعر عبد الناصر صالح قصيدته الموسومة بـــ” رسالة من الزنزانة “إلى أمي” في سجن طولكرم قبل 40 عامًا.

  • – د. مريم أبوبكر – المدير الثقافي لفرع الشمال في نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني .

شاهد أيضاً

بنغ لي يوان تحضر فعالية " الارتباط مع كوليانغ : الصداقة بين الشبان الصينيين والأمريكيين 2025 "

بنغ لي يوان تحضر فعالية ” الارتباط مع كوليانغ : الصداقة بين الشبان الصينيين والأمريكيين 2025 “

شفا – حضرت بنغ لي يوان ، عقيلة رئيس الصين شي جين بينغ، فعالية ” …