
رؤية في ظل الاحتلال : فلسفة تربوية للتنمية المستدامة في فلسطين ، بقلم : نسيم قبها
إن تحويل بوصلة التعليم في فلسطين نحو رحاب التنمية المستدامة هو رحلة تتطلب إبحاراً حكيماً في بحر متلاطم من التحديات، حيث يظل الاحتلال سحابة ثقيلة تحجب أفق التخطيط الطموح وتسرق الموارد وتقيد الحركة وتشوه البيئة التعليمية والتعلمية ، لكن القلب النابض للتربية الفلسطينية لا يتوقف عن البحث عن مسارب الضوء، فكيف نرسم خريطة طريق تربوية تتجاوز العقبات نحو غد مستدام؟
تستند فلسفة هذا التحول إلى رؤية تجعل من التعلم و التعليم كائناً حياً متجذراً في تربة الهوية والتراث، ومتطلعاً في ذات اللحظة نحو آفاق المعاصرة والاستشراف، إنها دعوة لتحرير مبادرات التعلم والتعليم من قيود النموذج التقليدي الذي يراهن على التلقين والتقييم الضيق، ونقله إلى فضاء أرحب حيث يصبح الفعل التعلمي فضاءً للاستكشاف النقدي والإبداع العملي والانخراط الواعي في هموم المجتمع وتحدياته وأحلامه، فالتنمية المستدامة ليست شعاراً غريباً بل هي حاجة وجودية لفلسطين الجريحة، تربية تتشرب قيم الاستدامة البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تصبح درعاً واقياً ضد التفتت ورهاناً على الصمود.
المناهج هنا ليست مجرد كتب مغلقة بل هي نوافذ مفتوحة على قضايا الوطن و الأرض والماء والطاقة، على تحديات الاقتصاد المحلي الصامد والمستهدف ، على إرث الزراعة الفلسطينية الأصيل والتي يتم دكّها باستمرار من الاحتلال ، على حكايات التراث التي تحمل بذور الحكمة كمدرسة باقية ، التعليم والتعلم من أجل الاستدامة يعني تعلم الزراعة الحضرية على أسطح المدارس في فلسطين المنهوشة ، يعني تصميم حلول للطاقة المتجددة في القرى المعزولة والمعانية ، يعني تبني ثقافة إعادة التدوير والحد من الهدر كرد فعل على شح الموارد ومنعها ، يعني تعزيز السياحة البيئية الواعية كشاهد على جمال الأرض المقاوم.
إن معوقات الاحتلال، من حصار وتفتيت للأرض وتدمير للمدارس واعتقال للطلبة والمعلمين ، تحول دون بيئة تعلمية آمنة وكريمة، لكن الروح التربوية الفلسطينية تخلق من اليأس منجماً للإصرار، التعلم والتعليم في ظل الاحتلال هو فعل مقاومة يومي، والتحول نحو الاستدامة هو تجسيد لهذه المقاومة ببعدها البنّاء، إنه يستدعي مرونة غير عادية في التخطيط، واعتماداً على الموارد المحلية المحدودة، وإبداعاً في استثمار التكنولوجيا الرقمية لتعويض نقص التنقل، وتعاوناً وثيقاً مع المجتمع المحلي ليكون شريكاً فاعلاً في العملية التعلمية بدءاً من الأسرة ووصولاً إلى المؤسسات الأهلية، كما يتطلب هذا التحول دعمًا دولياً واعياً لا يكتفي بالمساعدات الطارئة بل يستثمر في بناء القدرات التربوية والبنى التحتية الصديقة للبيئة.
المعلم في قلب هذا التحول، هو ليس ناقلاً للمعلومات ، بل هو حامل مشعل، يحتاج إلى تمكين مستمر ليصبح قادراً على خلق مساحات تعلم تفاعلية حيوية، على استخدام أساليب تربوية تحفز التفكير النقدي وحل المشكلات، على دمج مفاهيم الاستدامة بسلاسة في كل مادة، على أن يكون نموذجاً يُحتذى في الممارسات المستدامة، التقييم أيضاً يجب أن يتحول من قياس الحفظ والفزلكة إلى تقييم المهارات والقدرات ، على الابتكار والتكيف والعمل الجماعي واتخاذ القرارات المسؤولة تجاه البيئة والمجتمع.
الطريق نحو تعليم وتعلم داعم للتنمية المستدامة في فلسطين هو مسار طويل ملئ بالحصى، لكن كل خطوة عليه هي انتصار للإرادة، إنه استثمار في الإنسان الفلسطيني، في عقله وروحه ويديه، ليكون قادراً ليس فقط على الصمود في وجه رياح الاحتلال العاتية، بل على بناء وطنه حجراً حجراً، وطناً أخضر مزدهراً ينبض بالحياة والكرامة والأمل، مستقبل مستدام لا يُمنح بل يُخلق بالعلم والعمل والإيمان الراسخ بأن جذورنا في هذه الأرض عميقة كأشجار الزيتون، وأجنحتنا في السماء لا تقيدها حدود.
هذه هي فلسفة التربية التي ننشدها: تعليم يغرس بذور الغد في تربة اليوم الصعبة، تعليم يكون فيه التعلم عملاً من أعمال التحرير الحقيقي، نحو فلسطين حرة مستدامة.
- – نسيم قبها – الإئتلاف التربوي الفلسطيني – الحملة العربية للتعليم.