
“أكون لك سنونوة” ريتا عودة ، تُحلّق بشِعرٍ من نور ووجع ، بقلم: رانية مرجية
ما الذي يجعل ديوان “أكون لك سنونوة” تحليقًا خارج السرب؟
إنه ليس مجرد مجموعة قصائد؛ بل بوحٌ روحيّ، ونسيج وجدانيّ تنسجه الشاعرة ريتا عودة بخيوط من الحرير والدم، من الحلم والانكسار، ومن الحنين الذي يرفض أن يكون جملةً ماضوية.
أدبية المفردة: الشعر كأداة كشف
منذ الأسطر الأولى، تكشف الشاعرة عن وعيها الشعري العميق:
“أكتبُ لأُوصِلَ لا لأَصلَ”
بهذه العبارة الموجعة تُعلن ريتا أنّ الشعر ليس غاية بل رسالة، وأن القصيدة ليست مأوى بل طريقٌ إلى خلاص داخليّ.
في كل نص، تُعلي ريتا من شأن اللغة ككائن حيّ، فتجعل منها بؤرة اشتعال لا مجرد وسيلة. المفردة عندها كائن عضوي، قابل للدهشة، للانفجار، وللرفرفة. ومن خلال صور شعرية مذهلة، تُقيم علاقة مقدسة بين الشاعرة والمفردة:
“كلما أُدَلِّلُها، تدَلِّلنِي أكثر… فكيفَ لا أعشَقُها؟”
هنا تتجلّى فتنة المبدعة التي ترى في اللغة ليس فقط مرآةً بل محرّكًا للوجود.
الهوية والالتزام: القصيدة موقف
في مقطع لافت، تقول الشاعرة:
“كانَ بإمكاني… ألّا أُبالي… لكنني أدركتُ أنني مرسلة”
هنا تدخل القصيدة فضاء الالتزام الأخلاقي والاجتماعي. ريتا لا تكتب من برج عاجي بل من زقاق العتمة، من قلب النكبة، من دموع المهمشين.
لقد جعلت من القصيدة خيمةً للمُتعبين، ومن الكلمة قارب نجاة. هذه شاعرة تحمل “راية المهَمَّشين” لا بالخطابة بل بالحبّ، بالاحتضان، وبالتمرد الناعم على الظلم.
المرأة كذات فاعلة: لا أنوثة مستهلكة
ريتا، في كل ديوانها، لا تصرخ بلسان امرأة مكسورة، بل تعلن الثورة بعين عاشقة:
“أنا الحريرُ إن أتيتَني نسَّاجًا، وأنا الصَّلاةُ إن أتيتَني ناسِكًا.”
تُعيد تعريف الأنوثة، لا كجسد، بل ككيان متعدّد الطبقات، قادر على الحبّ والعطاء، كما هو قادر على المواجهة والانبعاث.
المرأة في هذا الديوان ليست صدىً لرجل، بل مجازٌ شعريّ يصوغ هويةً وجودية، مقاومة، عاشقة، ومُنيرة.
العشق… فلسفة الوجود ونشيد الانتماء
الديوان يحتفي بالعشق لا كعاطفة عابرة، بل كحالة وجودية:
“العشق هو أن تقرأني بالدَّهشة ذاتها التي يقرأ بها الشاعر كلّ قصيدة جديدة.”
الحب في “أكون لك سنونوة” ليس ترفًا، بل ضرورة، بل فعل انتماء: إلى الذات، إلى الآخر، وإلى الله أحيانًا.
ريتا تغوص في تفاصيل الحنين، لتُشكّل من الحبيب مرآةً ترى فيها ذاتها بأبهى بهاء:
“ذهبتُ إليكَ وفي يدي وردة. عُدتُ منكَ وأنا الوردة.”
الرمزية والتكثيف: بين الطائر والماء
السنونوة، رمز الهجرة والحنين والحريّة، ليست عنوانًا عبثيًا.
ريتا عودة تتماهى مع هذا الطائر، فتكتب من مدارج البعد، ومن سماوات الانتظار.
“حينَ لا تكونُ لي القفصَ، أكون لكَ سنونوة.”
هي لا تحلّق إلا إذا مُنحت أجنحة الاختيار والكرامة، وإن دلّ هذا على شيء، فهو عنفوان أنثويّ يخترق اللغة والحياة والمجتمع معًا.
بين الشفافية والجُرأة: جمالية البوح
ليس في هذا الديوان شيء من الحذر؛ فيه كثير من الجرأة الرقيقة، الشفافة، المُتمرّدة بأناقة.
من السطور يتسرّب البوح كما المطر: ناعمًا، دافئًا، صادقًا.
نرى ذاتًا تتجلّى بين سطور الحب والفقد، بين رغبة الطيران وخشية الانكسار، بين صلاةٍ وعناق، بين شهقةٍ وقصيدة.
نهاية مفتوحة على الحلم
ختام الديوان ليس نهاية، بل بداية.
تغلق ريتا النصوص على لحظات متوهجة: ارتباك، استبصار، شغف، جُرأة، دهشة.
هذا ليس ديوان شعر فقط؛ إنه تجربة روحية وجدانية جمالية غنية بطبقات المعنى، ينقلك من العتمة إلى نور القصيدة، من النثر إلى نشيد، ومن الغياب إلى وعد بالخلود.
في زمن التهافت والتشابه، تأتي ريتا عودة في “أكون لك سنونوة” لتمنح الشعر مجدَه، والأنثى صوتَها، والعاشق أجنحتَه.
فطوبى لها…
وطوبى لنا بهذه السنونوة التي لا تُقيَّد.