
كبار السن بين بلجيكا وفلسطين: من راتب التقاعد إلى رحمة القبر! بقلم : المهندس غسان جابر
في بلجيكا، عندما يبلغ الإنسان 65 عامًا، تأتيه رسالة مهذبة من دائرة التقاعد تقول له:
“تهانينا! أصبحت متقاعدًا… أرجو تزويدنا برقم حسابك البنكي لنُحوّل لك راتبك شهريًا. وإن واجهت أي صعوبة، اتصل بنا لنحدد لك موعدًا لمساعدتك.”
في بلجيكا، يُصبح التقاعد محطة للراحة والكرامة، لا بداية للتيه والخذلان. هناك، تبدأ الحياة من جديد بتخفيضات على الإيجار، دعم مالي للسكن، كهرباء ومواصلات شبه مجانية، وضمان صحي يشمل حتى طبيب الأسنان، الذي إن لم تزره خلال سنة، تُغرّم لأنك… أهملت صحتك!
في بلجيكا، لا يوجد بترول، ولا معادن، لكن هناك ما هو أندر: العدالة.
أما في فلسطين، فحين يبلغ الإنسان 65 عامًا، تأتيه رسالة غير مكتوبة تقول له:
“بلغت من الكِبر عتيًّا؟ إذن تفضّل بالوقوف في طابور المساعدات، إن وجدت. وإن لم يكن لك ابن مسؤول أو قريب نائب، فادعُ الله كثيرًا، فالسماء أرحم من الأرض!”
كبير السن في فلسطين له حالتان فقط:
- إما أن يكون صاحب منصب: فيصبح التقاعد نكتة سمجة، ويلتصق بالكرسي كما تلتصق الرطوبة بجدار قديم، حتى يأتيه أمر الله أو أمر رئاسي. يحدثك عن “تمكين الشباب”، بينما يعاني من تصلب في الركبة وسوء في الذاكرة، لكنه لا ينسى موعد الراتب والمكرمات، فلا تقاعد له، بل تمديد غير معلن للحياة الوظيفية، حتى يتحول المكتب إلى دار رعاية، والكُرسي إلى مقعد عجزة.
- أو أن يكون من عامة الناس: فيُترك لأوجاعه وأدويته المُقطّعة في صيدليات الحكومة. يموت واقفًا في طابور التأمين الصحي، أو جالسًا على مقعدٍ مكسور في عيادة بلا طبيب، أو يقطع أيامه وهو يبحث عن وسيلة ليشتري عبوة “فلاجيل” على حساب ما تبقى من كرامته.
في فلسطين لا تقاعد، بل “توديع تدريجي للحياة” دون مراسم وداع.
حتى المساعدات الأوروبية، التي تُرسل لتوفير حياة كريمة لكبار السن، تُفرز وتُفرغ في جيوب المسؤولين. وحدهم “العامة” يُحاسبون على لقمة الخبز، بينما النُخب لا يُحاسبون حتى على سنوات النهب المتواصل.
تخيلوا لو أن نظام بلجيكا طُبّق عندنا!
لأصبحت وزارة الشؤون الاجتماعية مكتظة بالمتقاعدين… والموظفين يصرخون: “مش فاضيين! ارجع بعد العيد.”
ولسمعنا عن طبيب أسنان حكومي يتقاضى راتبه دون أن يرى سنًّا واحدة طوال العام.
ولسُئِل المتقاعد عن رقم حسابه، لأجاب: “أي حساب؟ أنا ما معي غير دفتر ديون في الدكانة.”
لكننا لا نحسد بلجيكا، لا والله، بل نحسد “المواطن” البلجيكي الذي لم يحتج واسطة ليتقاضى راتبه، ولم يُذلّ ليثبت أنه موجود.
في فلسطين، أكبر ضمان لكبير السن أن يكون “قريب فلان” أو “كان بيوم وزير”. أما من عاش في صمت، وخدم في صمت، ومات في صمت… فليس له إلا دعاءٌ في الجنازة:
“اللهم ارحمه، لم يأخذ من الدنيا شيئًا.”
، نقول : احترموا من بنى هذا الوطن قبل أن تبنوا القصور حوله. فإن لم تكن لديكم ميزانية للتكريم، فكونوا على الأقل على قدر من الحياء.
م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.