
“في حبِّ الرفاق” للشاعر محمد علوش ، بيان الشعر الثوري وسِفرُ الوفاء الجماعي ، بقلم: عدلي عبد الكريم
في زمنٍ يتآكل فيه المعنى، وتُفرَّغ فيه الكلمات من جوهرها، تأتي قصيدة “في حبِّ الرفاق” للشاعر الفلسطيني محمد علوش، كصرخة شعرية خالصة، تُعيد الاعتبار للرفاق المناضلين لا بوصفهم رموزاً رومانسية أو مجرد شهداء في دفاتر النسيان، بل بوصفهم جوهر الحياة، وصانعي المعنى الإنساني الأسمى، إنها قصيدة مكتوبة بالدم والذاكرة والكرامة، وتنبض بطاقة وفاء نادرة في زمن التراخي.
أولاً: البناء العام للقصيدة – قصيدة نشيد وموقف:
تقع القصيدة في عدة مقاطع طويلة، لكنها تتنفس كوحدة واحدة، يضبطها إيقاع داخلي نابض بالمشاعر والانفعال الصادق، ومحمد علوش لا يتبع نمطاً تقليدياً في التفعيلة أو القافية، بل ينسج نَصّه بأسلوب أقرب إلى “النشيد الطويل”، الذي تتوالى فيه الصور والمواقف، دون أن تبهت حدّة العاطفة أو تتراجع حرارة المعنى.
منذ المطلع، يحدّد الشاعر موقعه وموقع من يخاطبهم:
“يا أبناء الجرحِ المنسيّ،
وحرَّاسَ الخبز المبلول بدمع الأمهات،
يا أنبياء الشارع
حين تفيضُ الأرصفةُ بالحُلمِ، وبالأغنيات”.
هنا، نجد الشاعر يسند أدواراً تكاد تكون نبوية لهؤلاء المنسيّين في هوامش العالم، حيث يبدأ الخطاب بنبرة وجدانية عالية، يُعلي فيها من مكانة الرفاق بوصفهم “أنبياء الشارع”، و”رياح الفقراء”، و”مطر الغضب الأجمل”.
ثانياً: الصور الشعرية – صناعة المعنى من الواقع:
محمد علوش لا يهرب إلى المجاز، بل ينتج صوراً جديدة من رحم التجربة اليومية:
“فأسُ الكلام، وسندانُ الضمير”.
هنا تتحول اللغة إلى أداة نضال، يتكلم الشاعر عن الكلمة لا كوسيلة بل كأداة حدّ، تمضي في وجه الظلم، وفي مقطع آخر يقول:
“منكم تعلّمتُ
أن للتراب لغةً
لا تُفكّ شيفرتُها
إلا حين نموت وقوفاً”.
في هذا المقطع تبرز قدرة الشاعر على خلق صُوَر فلسفية عميقة نابعة من صلابة الأرض والانتماء لها، فالموت وقوفاً هنا ليس بطولة مجانية، بل شرط لفهم لغة التراب – أي الانتماء الحقيقي للأرض.
ثالثاً: الرموز والمعجم الثوري:
القصيدة ثرية برموز طبقية وكفاحية: العامل، الخبز، السجن، المصنع، الرفيق، الراية، الشهداء، الحلم الأحمر، وهذا المعجم ليس زخرفياً بل يعكس رؤية شاعر تشكّل وعيه من قلب النضال الفلسطيني والعمل النقابي، ما يمنحه صدقية نادرة.
“يا من نَزَلتُم
إلى الأرض حفاةَ القلوب،
ورفعتم رايةَ الفقراء على سارية الجوع والحديد”.
إنها صورة متكاملة ترسم تضحية نقية، بطولية، وعفوية، تُخاطب الضمير الجمعي وتحمل في طيّاتها سيرة مناضلين لم يطالبوا بشيء سوى الكرامة.
رابعاً: حضور الشهداء والموت الحيّ:
الشهداء في القصيدة ليسوا غائبين، بل هم نواة الوجود:
“سقطوا، وما سقطت الراية
ظلّت تحملُها الريحُ عنهم،
وتزرعها في الحقول”.
تتحوّل دماء الشهداء إلى خصوبة، إلى أمل، إلى نشيد طبولٍ في وجه الصمت، وهذا المقطع يُمثّل ذروة القصيدة، حيث تبلغ نبرة الوفاء أقصى تجلياتها.
خامساً: الانحياز الأخلاقي والجمالي:
القصيدة منحازة انحيازاً واضحاً للمنسيين، وللذين “لا قبور لهم” لأنهم باقون في “صوت عاملٍ عاد آخر الليل يحمل رغيفاً، ويغنّي لهم”، لا مكان هنا للزيف أو للنفاق الشعري.
“ما باعوا الصوت
ولا خافوا الضياء،
ظلّوا هناك، حيث يكونُ الوقوفُ على العدلِ
أشبهَ بالصمتِ في حفلة الذبح”.
بهذه اللغة المشرعة على الدم والحق، يكتب محمد علوش قصيدته بوصفها وثيقة أخلاقية، وموقفاً سياسياً، وصوتاً لمن لا صوت لهم.
قصيدة محمد علوش – بين الشعر والموقف:
في “في حبّ الرفاق”، نقرأ واحدة من القصائد التي لا تستجدي العاطفة، بل تُنبتها من الجذر، وتمنحها شرعيتها من الأرض، من التاريخ، ومن التجربة الجماعية، إنها بحق قصيدة وفاء، لكن الوفاء فيها ليس مجرد حنين، بل فعل مستمر، ومقاومة ضد النسيان.
محمد علوش، في هذا النص، يقدّم نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه الشعر حين يتخلّى عن وهم النخبة، ويعود إلى الناس، إلى الرصيف، إلى التراب، إنه شاعر الموقف، لا الادعاء، شاعر الجماعة، لا الأنا.
ولهذا فإن قصيدته “في حبِّ الرفاق” ليست مجرد قصيدة، بل بيان حبّ ثوري حيّ، لا يزال يضيء، كما الرفاق، هذا الزمن الباهت.
- – عدلي عبد الكريم – كاتب عراقي