
غسان كنفاني ، حين تصبح الكلمة بندقية واللاجئ نبيًّا ، بقلم: رانية مرجية
من قال إن القتلى يذهبون إلى الموت؟
غسان كنفاني لم يمت، لأنه لم يعش فردًا، بل عاش فكرة. لم يُكتب بالحبر فقط، بل بالحريق والوجع، بالمخيم والخيمة، بالأرض المسلوبة والصوت المقموع.
هو ليس مجرد كاتب، بل شاهد وشهيد ومقاتل بالكلمة، أغنَت نصوصه عن الرصاصة، وألهبت وعي أجيال لم تولد بعد.
من يكتب لاجئًا؟
في روايته “عائد إلى حيفا”، لا نقرأ حكاية عائلة فلسطينية فحسب، بل نقرأ الوطن وقد مُزّق أمام أعيننا، نقرأ سؤالًا رهيبًا: من هو الفلسطيني الحقيقي؟
هل هو من بقي داخل الوطن، تحت الاحتلال، يتأقلم؟
أم من خرج، يحمل ذاكرة الأرض، يورثها خوفًا وحنينًا؟
إنها رواية تحاكمنا، لا تحتوينا فقط.
في “رجال في الشمس”، يُلقي غسان الضوء على جرح أكبر:
لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟
لماذا ماتوا صامتين؟
لقد وضع إصبعه على هشاشتنا كلاجئين، على عجزنا كمهجّرين، وجعل القارئ يخجل من موته الداخلي قبل موت شخصياته.
القصة ليست قصة خيال
لم يكتب غسان عن شخصيات خيالية، بل عن خاله، عن جاره، عن أمه التي أجهشت بالبكاء حين نزحوا من عكا.
كتب لأن الكتابة كانت آخر ما تبقى من السلاح.
كان يعرف أن الرواية ليست فقط أداة فنية، بل أداة مقاومة.
لم يكن ليجلس في برج عاجي، كان يكتب من الطين، من الجوع، من ضيق الأزقة، ومن رائحة الخبز المحروق في لجوء لا يشبه الحياة.
غسان كنفاني والمرأة
غسان لم يكن من أولئك الكتّاب الذين اختزلوا المرأة في جسد أو دور ثانوي، بل جعلها وجدانًا وعمقًا.
رُهام، صفية، أم سعد، شخصيات نسائية حاضرة ومؤثرة، تحملن العبء، ويقاومن بالصبر والوعي.
في “أم سعد”، تصبح الأم صوت الحارة، عقل المخيم، وذاكرة الثورة.
إنه يعيد للمرأة الفلسطينية كيانها النضالي دون أن يصادر إنسانيتها.
غسان كنفاني والسياسة
كان غسان عضوًا في الجبهة الشعبية، لكنه لم يكتب أدبًا حزبيًا ضيقًا.
لم يرفع شعارات، بل نبش في اللحم الفلسطيني، وعرّى التخاذل والصدع الداخلي.
لم يكن يخاف من الحقيقة، ولهذا خافوه.
ولأن الكلمة عنده كانت تقاوم، اغتالوه.
عام 1972، اغتالوه، كما يُغتال كل من يحوّل القلم إلى خنجر.
لكنهم لم يستطيعوا اغتيال أثره، ولم يقدروا على إخماد صوته، لأن صوته كان أصلاً صدى لصوت الناس.
الكلمة المشتعلة
ما كتبه غسان لم يكن فقط أدبًا، بل وثيقة أخلاقية، صرخة وجدانية، وتاريخًا يُروى دون تزوير.
رواياته ليست مجرد صفحات، بل جدران يقف أمامها الفلسطيني ليعرف من هو، وليسأل نفسه:
ماذا فعلتُ من أجل وطني؟
وماذا فعل وطني من أجلي؟
ختامًا…
غسان كنفاني لم يكن نبيًا، لكنه قال لنا الحقيقة دون وحي.
لم يكن مقاتلًا، لكنه هزّ الوعي كأنما أطلق قنبلة.
لم يكن شهيدًا عاديًا، بل شهيد الحبر والورق، شهيد المخيم والكلمة، شهيد فلسطين الكبرى التي لم تخن أبناءها.
وحده الذي يكتب بحبر الحقيقة يُغتال.
وحده الذي لا يساوم، يعيش طويلًا في قلوب الناس.
سلام عليك يا غسان،
كنت كلمة… وصرتَ راية.
وستبقى، لأن العظماء لا يُغتالون، بل يُنبتون في كل ضمير حر.