
كتابة من القلب… رحلة في عمق الذات مع الدكتورة تهاني بشارات ، بقلم : الدكتورة سارة محمد الشماس
في عالم يمتلئ بالكتابة نادرًا ما نعثر على نصٍّ يقرأ بالقلب قبل العين، ويلامس الداخل قبل السطح. كتاب الدكتورة تهاني هو من هذا النوع النادر من الكتابات التي لا تمر مرورًا عابرًا، بل تترك أثرًا ناعمًا، عميقًا، وشديد الخصوصية.
منذ أول سطر تشعر أن هذه ليست كتابة أدبية فقط، بل حالة إنسانية تكتب بالحبر والدمع والنبض. الكاتبة لا تحكي قصةً فحسب، بل تعيشها على الورق، وتنقل لك طاقة الشعور دون صخب لا تصرخ الكلمات، لكنها تهمس بما يكفي لتهزّ شيئًا ساكنًا فيك.
الأسلوب الذي كتبت به الدكتورة تهاني هو مزيج دقيق بين البساطة والعمق، بين الشفافية والتكثيف، بين اللغة الواضحة والمعنى الممتد. أسلوب يرافقك، لا يقودك، يفتح لك باب التأمل دون أن يدفعك إليه، ويجعلك ترى ما لم تره في نفسك من قبل.
المميز في هذا العمل هو ذلك التوازن الجميل بين ما هو شخصي وما هو إنساني عام. كل مقطع يشي بتجربة حقيقية، لكنها لا تنغلق على ذاتها، بل تمتد لتشملك. تشعر أنها تكتبك وأنت لا تدري، وتقول عنك ما لم تعرف أنك تريد قوله.
أما لغتها فهي كنسمة دافئة تمرّ على قلب متعب. لا تزخرف الكلمات، لكنها تجيد انتقاءها. تشبِه حوارًا هادئًا مع صديق قديم يعرفك جيدًا. وفي كل صفحة، ثمة شيء يذكرك بنفسك، أو بشخص غاب، أو بحلم كدت تنساه.
الكتاب لا يقدّم حلولًا، لكنه يقدّم مواساة. لا يملي دروسًا، بل يمنحك حضورًا. وبهذا هو ليس مجرّد عمل أدبي، بل تجربة وجدانية متكاملة، تقرأ فيها شيئًا من حياة، وتكتشف من خلالها جزءًا من ذاتك.
ما يثير الإعجاب في هذا الكتاب هو قدرة الكاتبة على استدعاء كل الحواس، فالكلمات تنبعث كما لو كانت مشاهد وأصواتًا وروائح وأحاسيس، تحمل القارئ إلى فضاء مختلف من الإدراك. لقد جعل القارئ لا يقرأ فحسب، بل يشعر ويتنفس ويتفاعل. هذا البعد الحسي هو ما يجعل من الكتاب تجربة حيّة، تجدد في النفس حضورًا ووعيًا.
إضافة إلى ذلك لا يمكن تجاهل أن الكتاب يعكس رؤية إنسانية عميقة، تدعو إلى التفهم والرحمة والتواصل مع الآخر، مهما كانت الظروف. فهو يحث القارئ على التأمل في ذاته وفي العالم من حوله، ويدفعه لأن يكون أكثر رحابة قلبًا وانفتاحًا فكرًا. وهذا يجعله عملًا يتخطى حدود الأدب، ليصبح رسالة إنسانية تسعى إلى بناء جسور من المحبة والفهم.
وأكثر ما يثير الإعجاب هو أن الكاتبة استطاعت أن تدمج بين الفكر والشعور، بين العقل والوجدان، دون أن تطغى إحداهما على الأخرى. فقد جعلت من الكتاب مرآة تعكس فيها القارئ ذاته، فتراه بمنظور جديد، أكثر صفاءً وصدقًا.
ليس غريبًا أن تبقى كلماته معلقة في الذاكرة، فحين يخرج النص من القلب، لا بدّ أن يصل إلى القلب. وهكذا هي كتابة الدكتورة تهاني… لا تمر دون أثر، بل تزرع فينا بذورًا من الضوء والصفاء والصدق.
إن هذا الكتاب ليس مجرد مجموعة صفحات، بل هو رحلة إنسانية متكاملة، مدخل إلى أعماق النفس، ونافذة مشرعة على عوالم من الجمال والصدق والتأمل. هو دعوة لكل قارئ أن ينصت إلى صمت نفسه، ويتفاعل مع الحياة من موقع أعمق وأصدق، ليتحول من مجرد متلقٍ إلى شريك في تجربة الكتابة والحياة.
(صورة غلاف كتاب إنما الإنسان أثر 2)
