12:12 صباحًا / 27 يونيو، 2025
آخر الاخبار

متلازمة الذاكرة الزائفة وتشكيل الرأي العام في زمن الأزمات ، بقلم: د. زبيدة صبحي سلمان

متلازمة الذاكرة الزائفة وتشكيل الرأي العام في زمن الأزمات ، بقلم: د. زبيدة صبحي سلمان

متلازمة الذاكرة الزائفة وتشكيل الرأي العام في زمن الأزمات ، بقلم: د. زبيدة صبحي سلمان


جلست تمارة في قاعة امتحان اللغة العربية، وقلبها يزاحم قلمها، بمجرد وقوع عينيها على السؤال الذي ينص على: حلل دلالة استخدام ضمير الغائب في نص (رثاء الأندلس).”


ابتسمت وكلها ثقة بقدرتها على الإجابة، فهي تتذكر جيداً أنها قرأت هذا النص، بل إنها كتبت عنه فقرة طويلة في دفترها، فأمسكت القلم وكتبت: استخدام ضمير الغائب هنا يعود إلى الشاعر محمود درويش، الذي استخدمه ليعبّر عن نفي الذات وتغريب الوطن.”أنهت الإجابة وكلها يقين بأنها ستغلق العلامة الكاملة. لكن عند مراجعة الإجابات مع معلمتها وزميلاتها، كانت المفاجأة الصادمة لها، الشاعر ليس درويش، بل أبو البقاء الرندي. والفقرة التي كتبتها مأخوذة من تحليل كانت قد كتبته عن نص مختلف تمامًا، لكنها خلطت بين النصين، فوقعت فريسة لذاكرتها الزائفة.


ما هي متلازمة الذاكرة الزائفة؟


هي ظاهرة يتذكّر فيها المتعلم معلومات أو أحداثًا لم تحدث أصلًا أو يسترجعها بشكل غير دقيق، مع اعتقاده التام بأنها صحيحة، فتؤثر سلبًا على أداء الطلاب في التقييمات، وتضعف قدرتهم على التمييز بين ما تعلّموه فعليًا وبين ما خُزّن بطريقة مشوّهة في الذاكرة. وتنتج هذه الظاهرة عن عدة عوامل منها: الإيحاء من المعلمين أو الزملاء، التكرار الخاطئ للمعلومة، الإجهاد الذهني أو الضغط النفسي (كالامتحانات)، أو سوء الفهم الناتج عن العرض غير الدقيق للمحتوى.


لقد أظهرت العديد من الدراسات أن أسلوب التعليم يلعب دورًا حاسمًا في ظهور أو تفادي متلازمة الذاكرة الزائفة لدى الطلاب. فالتعليم التقليدي الذي يركز على الحفظ والتلقين دون تشجيع الطلاب على التفكير النقدي والتحقق من صحة المعلومات، يسهّل على الذكريات الخاطئة أن تترسخ في الذاكرة. إذ يستقبل الطالب كمًا كبيرًا من المعلومات، بعضها قد يكون غير دقيق، ويخزنها بلا تمييز، ما يؤدي إلى تداخل الحقائق وخلق ذكريات زائفة. فالطلاب المعتمدون على المجال، والمقصود به (الإطار البصري أو السياق الذي تظهر فيه المعلومات)، يميلون للخلط بين التفاصيل بسبب التركيز على العلاقات العامة بين المعلومات والتي يخزنوها بصورة شمولية، مما يجعلهم أكثر عرضة لدمج معلومات جديدة مع قديمة دون تمييز واضح (وهو ما يخلق ذكريات زائفة)، على سبيل المثال: عند قراءة نص أدبي، يركّزون على المشاعر العامة والعلاقة بين الشخصيات، لكنهم قد لا يتذكرون أسماءهم بدقة أو ترتيب الأحداث، كما حدث مع تمارة في امتحان اللغة العربية. بالمقابل، يُعزز أسلوب التعليم النشط القائم على المناقشة والتحليل والتمارين التفاعلية قدرة الطالب على التمييز بين المعلومات الصحيحة والخاطئة، فالطلاب المستقلون عن المجال، يتعلمون بشكل ذاتي ومنظم، بارعون في التحليل والنقد، ولديهم قدرة أكبر على التمييز بين المعلومات الدقيقة والمتشابهة. فتركيزهم على التفاصيل يُساعدهم على التمييز، مما يقلل من احتمال تكوين ذكريات خاطئة وحدوث هذه الظاهرة.


متلازمة الذاكرة الزائفة تربك عملية التعلم والاستيعاب، خاصة في البيئات المضغوطة نفسيًا أو سياسيًا. فقد يسترجع الطالب معلومة غير صحيحة على أنها صحيحة تمامًا، ليس لأنه لم يتعلّمها، بل لأن ذاكرته أعادت تشكيلها بفعل التكرار، الإيحاء، أو الضغط النفسي. وهذا يُفسّر كيفية تمسك المتعلمين بمفاهيم مغلوطة رسخت في أذهانهم نتيجة تكرار خاطئ أو تعليم غير نقدي.


كيف تتسلل الذاكرة الزائفة إلى الرأي العام؟


لم تعد متلازمة الذاكرة الزائفة حبيسة كراسات الطلاب وأروقة المدارس وفضاء الجامعات، بل تسلّلت بهدوء من مقاعد الدراسة إلى أرصفة الواقع، ومن أوراق الامتحانات إلى عناوين الأخبار وحوارات قنوات التواصل. وما بدأ من فرد يخلط بين ما رآه وما سمعه وما يعتقد أنه تذكّره، وإن لم يكن مقصوداً، لكنه بتكراره تحول على شكل سرد مؤثر أو “قصة تبدو منطقية، وأضحى رواية مقنعة. ومع غياب التفكير النقدي أو ضعف التحقق من المصدر، تنتشر هذه الرواية بين الأشخاص ومع الوقت، تتحوّل هذه الذكرى الزائفة إلى معلومة شائعة، وتبدأ الناس بتكرارها دون تدقيق، مما يعززها في الذاكرة. في هذه المرحلة، لا تبقى مجرد معلومة، بل تصبح رأيًا عامًا، يُبنى عليه موقف، وقد تُتّخذ بسببه قرارات أو يُمارَس به ضغط اجتماعي.


كيف نحصّن وعينا ونحمي عقولنا من الذاكرة الزائفة؟


مواجهة الذاكرة الزائفة، لا نحتاج فقط إلى معرفة ما نُخطئ فيه، بل إلى بناء مناعة فكرية تقينا الوقوع في فخ التكرار المألوف والوهم الخادع. وتبدأ هذه المناعة بتشجيع تذكر المعنى لا الشكل، والفهم لا الحفظ. وأن نختبر ذاكرتنا بصدق، ونستقل عن المجال بالتركيز على التفاصيل أكثر من تركيزنا على الصورة الشاملة. ونفتح باب الشك الذي هو ضرورة يحتم علينا أن نشكك دومًا في صحة ما نسمع، وأن نُدرّب ذواتنا على توثيق المعلومة بمصدرين أو أكثر. وأن نبتعد عن توظيف العاطفة في تبني الآراء، فالمعلومات التي تُثير فينا الانفعال تسكن الذاكرة بسهولة، لكنها ليست بالضرورة صادقة. لذا، علينا أن نُدرّب أنفسنا وطلابنا على مقاومة هيمنة القصص المؤثرة إذا لم تسندها الحقائق. وأخيرًا، لنجعل من الحوار النقدي عادة تربوية ومجتمعية؛ فالمعلومة التي تُناقَش تُثبَّت، أما التي تُردَّد بلا تفكير، فقد تُصبح ذاكرة زائفة، لا نكتشف زيفها إلا حين نكون قد صدّقناها أكثر مما ينبغي.

شاهد أيضاً

الاحتلال يخطر بالاستيلاء على ألفي دونم من أراضي يعبد جنوب غرب جنين

الاحتلال يخطر بالاستيلاء على ألفي دونم من أراضي يعبد جنوب غرب جنين

شفا – أخطرت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الخميس، بالاستيلاء على أراضي في بلدة يعبد جنوب …