
هل قرّب العدوان الأمريكي – الإسرائيلي إيران من القنبلة النووية؟ ، بقلم د. خالد جاسر سليم
في أعقاب العدوان الإسرائيلي–الأمريكي المفاجئ على إيران، والذي استمر اثني عشر يومًا، بدأت تتبلور مؤشرات على احتمال حدوث تحول في العقيدة النووية الإيرانية، لا سيما في ظل الانكشاف الصارخ لنقاط الضعف في بنية الردع الاستراتيجي للدولة. فقد كشفت الضربات المركزة عن فشل منظومات الدفاع الجوي في التصدي للهجمات التي استهدفت منشآت نووية وقواعد عسكرية وبُنى تحتية حيوية، وأظهرت في الوقت ذاته هشاشة منظومة القيادة والسيطرة، وغياب التكامل الشبكي بين الرادارات وأنظمة الدفاع الجوي، وضعف قدرتها على مجاراة التفوق التكنولوجي الأمريكي. هذا بالإضافة إلى ما اعتُبر إخفاقًا استخباراتيًا جسيمًا، وصفه بعض الخبراء الغربيين بـ”الهزيمة الاستخبارية الوجودية”، خاصة بعد استهداف شخصيات عسكرية رفيعة وعلماء في المجال النووي داخل العاصمة طهران، دون قدرة واضحة على الردع المسبق أو الحماية الوقائية. وعلى الرغم من أن إيران تمكنت خلال ساعات من إعادة بناء جزء من بنيتها العملياتية، بل ونفذت ضربات نوعية ألحقت خسائر في مواقع حساسة داخل الكيان الإسرائيلي، ما اسهم في دفع تل أبيب وواشطن الى وقف لاطلاق النار.
وفي ضوء هذا الواقع الجديد، تبرز تساؤلات مركزية داخل دوائر القرار الإيراني والإقليمي والدولي حول مستقبل العقيدة النووية، وجدوى الاستمرار في النهج الحالي، خاصة بعد ان ادركت الدولة الإيرانية حجم المخاطر والتهديدات التي واجهتها او تلك التي يمكن لها ان تواجهها. انطلاقًا من هذه اللحظة المفصلية، يقوم هذا المقال على توظيف منهجية تحليل القوى (Field Force Analysis) لتفكيك العوامل المؤثرة في احتمالية اتخاذ إيران قرارًا استراتيجيًا بامتلاك القنبلة النووية، بتحليل وتحديد القوى الدافعة التي تُعزز هذا الاتجاه، مقابل القوى المعطّلة التي قد تمنع طهران عن هذا الخيار.
لقد فتح العدوان الإسرائيلي الأمريكي وما رافقه من تواطؤ غربي الباب أمام نقاش جدي في دوائر القرار الإيراني حول جدوى الاستمرار بسياسة “الغموض النووي” التي انتهجتها الجمهورية الإسلامية لعقود، حيث تزداد احتمالية أن تتجه طهران نحو خيار التصعيد النووي من خلال رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 90%، وهو المستوى اللازم لصنع سلاح نووي، بما يشكّل خروجًا عن مسار الاتفاق النووي الموقّع عام 2015 الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في العام 2018. مثل هذا التحول لن يكون مجرد رد فعل رمزي، بل محاولة واعية لفرض معادلة ردع جديدة على غرار النموذج الكوري الشمالي، تضمن منع تكرار الضربات الاستباقية من قبل الولايات المتحدة أو الكيان الإسرائيلي، واستعادة الهيبة والردع العسكري الإيرانيين. وفي قلب هذا التوجه، يتصاعد الجدل الداخلي حول الفتوى الدينية التي أصدرها المرشد الأعلى علي خامنئي التي تحرّم إنتاج واستخدام السلاح النووي، حيث بدأت بعض الأصوات داخل المؤسسة السياسية والأمنية الإيرانية، خاصة الاتجاه المحافظ، تطرح سؤالًا مفصليًا: هل آن الأوان لتجاوز الاعتبارات الأيديولوجية لصالح حسابات واقعية تقوم على توازنات القوة والمصالح الوطنية؟ خاصةً في ظل قناعة متزايدة بأن الردع لا يُبنى بالنوايا والقيم والاخلاق، بل بامتلاك أدوات القوة التي تُفرض بها قواعد اللعبة في الإقليم، وهو ما ذهب اليه عدد من منتقدي المشاركة المباشرة في هذا العدوان، الذي – من ووجهة نظرهم – لم يترك خيارا لإيران للدفاع عن نفسها الا امتلاك القدرة النووية الرادعة، باعتبارها الضامن الوحيد لردع أي عدوان مستقبلي وضمان بقاء واستقرار الدولة الإيرانية.
لم يعد التحول النظري في المقاربة الإيرانية حبيس النقاشات الداخلية، بل بدأ يأخذ طابعًا ميدانيًا ملموسًا، كما يتضح من إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية – وتأكيد طهران – بشأن نقل أكثر من 400 كيلوغرام من اليورانيوم عالي التخصيب (بنسبة 60%) إلى مواقع غير معلنة. ويُجمع الخبراء على أن التعامل مع هذه الكمية لا يمكن أن يتم دون اتفاق مع إيران، ما يعكس خطورة التحرك ودلالاته السياسية والتقنية. ورغم غياب التوضيحات الرسمية، تشير التحليلات إلى ثلاثة سيناريوهات رئيسية: الأول، التمهيد لعملية تصنيع نووي سريع؛ الثاني، الوقاية من كارثة إشعاعية محتملة في ظل المخاطر المتوقعة باستهداف هذه المنشآت النووية؛ والثالث، استخدام هذا المخزون كورقة تفاوضية في أي مسار سياسي قادم، خاصة مع دعوة الرئيس ترامب الأخيرة لإجراء مفاوضات مع طهران الأسبوع المقبل. ويُضاف إلى ذلك بُعد سياسي جديد تمثّل في توصية البرلمان الإيراني بالانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية(NPT)، وهي خطوة تحمل دلالات مزدوجة: إما كأداة ضغط تكتيكية في سياق التفاوض، أو كمؤشر على تحوّل محتمل في العقيدة النووية نحو فكّ تدريجي للارتباط بالقيود القانونية والأخلاقية التي التزمت بها إيران لسنوات. ويأتي هذا المسار في ظل الغموض المحيط بحجم الأضرار التي لحقت بثلاثة من أبرز المواقع النووية – نطنز وأصفهان وفوردو – حيث تختلف التقديرات بين الرواية الأميركية التي تحدثت عن “تدمير كامل”، ومصادر أخرى تصفها بـ”أضرار جسيمة” أرجعت البرنامج سنوات إلى الوراء، في مقابل الرواية الإيرانية الرسمية التي تقلل من حجم الخسائر وتؤكد أن أعمال التأهيل جارية لاستعادة القدرات التشغيلية.
إلى جانب الضغوط الخارجية، تشهد إيران تصاعدًا في الضغوط الداخلية من التيار المتشدد، الذي يدفع بقوة نحو تجاوز الممانعة الداخلية لعبور العتبة النووية، معتبرًا أن امتلاك السلاح النووي بات الضامن الوحيد لبقاء النظام في ظل بيئة دولية مضطربة وعدائية. ويرى هذا التيار أن محدودية فاعلية الردع التقليدي وتراجع دور الحلفاء الإقليميين – الذين شكلوا في السابق المسدس الموجه نحو رأس الكيان الإسرائيلي – يعزز الحاجة إلى تسريع مسار التصعيد النووي. كما أسهم تآكل الثقة بالوصول الى حل وسط مع الولايات المتحدة التي تحاول فرض شروطها – التي هي الوجه الاخر للشروط الإسرائيلية بتفكيك البرنامج النووي الإيراني وفق نموذج ليبيا في عهد القذافي – في ترسيخ قناعة لدى صناع القرار الإيراني بأن المسار التفاوضي لم يعد خيارًا موثوقًا، بل أداة مؤقتة لكسب الوقت، وأن السبيل الوحيد لحماية المصالح الوطنية الحيوية العليا يكمن في تبني نهج واقعي يستند إلى موازين القوة لا إلى حسن النوايا.
رغم وجاهة هذا الطرح داخل بعض الدوائر الإيرانية، يبقى خيار تصنيع القنبلة النووية محفوفًا بتحديات جسيمة على المستويين العسكري والسياسي. أولى هذه التحديات تتمثل في التهديدات الصريحة المتكررة التي أطلقها الكيان الإسرائيلي، والذي أكد – على لسان قياداته العسكرية والسياسية – أنه لن يسمح لإيران بالوصول إلى العتبة النووية، وأنه مستعد لتنفيذ ضربة استباقية واسعة النطاق تُفشل أي محاولة إيرانية في هذا الاتجاه. ولا يقلّ الموقف الأميركي حدة، إذ شدد الرئيس دونالد ترامب في أكثر من مناسبة خلال الأزمة الأخيرة على أن “إيران لن تمتلك أبدًا سلاحًا نوويًا”، مضيفًا في أحد خطاباته: “لن نسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم داخل ايران”، في إشارة واضحة إلى أن مجرد العودة إلى التخصيب العالي يُعد خطًا أحمر يستدعي ردًا مباشرًا. ويكشف هذا التصعيد اللفظي عن موقف أميركي متشدد لا يكتفي بالتحذير، بل يلوّح بخيارات عملية، سواء عسكرية أو سياسية، في حال اتخذت طهران خطوات فعلية نحو العتبة النووية. إلى جانب ذلك، فإن أي تحرك نووي من هذا النوع سيجعل طهران عرضة لحزمة جديدة من العقوبات الدولية المشددة، تقودها واشنطن وبدعم أوروبي، الأمر الذي من شأنه أن يعيد إيران إلى دائرة العزلة السياسية والاقتصادية في ظل وضع اقتصادي متازم ، ويقوّض محاولاتها للخروج من أزماتها الداخلية المتفاقمة خاصة في ظل الململة الشعبية من مظاهر الفساد والفجوة بين عامة الناس والنخب الحاكمة.
رغم الوجاهة التي يتمتع بها الطرح الداعي إلى امتلاك السلاح النووي داخل بعض الدوائر الإيرانية، يبقى خيار التصنيع محفوفًا بتحديات كبيرة على المستويين العسكري والسياسي، تجعل المضي فيه محفوفًا بالمخاطر.
أولًا – التهديدات العسكرية الخارجية: يشكل التهديد الإسرائيلي المباشر أبرز هذه التحديات، حيث أعلن قادة الكيان – عسكريين وسياسيين – أن إيران لن يُسمح لها بالوصول إلى العتبة النووية، مع استعدادهم لتنفيذ ضربة استباقية واسعة النطاق لإفشال أي خطوة في هذا الاتجاه. الموقف الأميركي لا يقل حدة، إذ أكد الرئيس دونالد ترامب مرارًا أن “إيران لن تمتلك أبدًا سلاحًا نوويًا”، بل شدد على أن “الولايات المتحدة لن تسمح بتخصيب اليورانيوم داخل إيران”، ما يعني أن مجرد العودة إلى التخصيب العالي يُعد خطًا أحمر يستدعي ردًا فوريًا. ومما يعزز خطورة هذا التصعيد، أن الرد الأميركي المحتمل قد لا يقتصر هذه المرة على استهداف المنشآت النووية، بل قد يتجاوز ذلك إلى محاولة المسّ بجوهر النظام السياسي نفسه، تحت شعار “تغيير النظام”، رغم ما يعتري هذا السيناريو من تحديات ومخاطر قد تتجاوز الجغرافيا الإيرانية لتطال استقرار الإقليم بأسره. ويعكس هذا الخطاب التصعيدي موقفًا أميركيًا متشددًا لا يكتفي بالتحذير، بل يلوّح صراحة بخيارات عملية – عسكرية وسياسية – في حال مضت طهران قدمًا نحو خيار السلاح النووي.
ثانيًا – الأضرار التقنية المحتملة: إذا صحت التقارير التي تحدثت عن تدمير أجهزة الطرد المركزي في المنشآت النووية الثلاث (نطنز، أصفهان، وفوردو)، فإن ذلك يُعد عاملًا إضافيًا يُضعف القدرة الفعلية على تجاوز العتبة النووية في المدى القريب، ويُبطئ أي محاولة للتصعيد النووي السريع.
ثالثًا – التداعيات السياسية والاقتصادية: يمثل أي تحرك نحو تصنيع السلاح النووي تهديدًا بإعادة إيران إلى دائرة العقوبات الدولية المشددة، بقيادة أميركية وبدعم أوروبي محتمل. هذه العقوبات، في حال فُرضت، ستعمق العزلة السياسية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية، لا سيما في ظل الوضع الداخلي المتأزم أصلًا.
وبذلك، فإن خيار التصعيد النووي، على الرغم من تزايد تداوله داخل أروقة القرار الإيراني، لا يزال يصطدم بجدار عالٍ من التحديات المركبة والمتشابكة داخليًا وخارجيًا. وفي ضوء ذلك، يمكن تصنيف احتمالات اتخاذ إيران قرار امتلاك السلاح النووي ضمن ثلاثة أطر زمنية متميزة، يعكس كل منها سياقًا استراتيجيًا مختلفًا ومحفزات متغيرة تؤثر في مسار صنع القرار الإيراني.
في المدى القريب (0–12 شهرًا)، تقف إيران في موقع “الردع المهدد”؛ فهي تواجه من جهة ضغوطًا داخلية متزايدة من التيار المتشدد الداعي لتجاوز العتبة النووية، ومن جهة أخرى تهديدات خارجية مباشرة من قبل الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في حال أقدمت على أي خطوة نوعية. في هذا السياق، تقترب اللعبة الاستراتيجية من نموذج “الدجاجة”، حيث يسير الطرفان نحو حافة التصعيد، لكن دون رغبة حقيقية في الاصطدام. إلا أن خطر الانزلاق إلى نقطة اللاعودة يظل قائمًا. بناءً على ذلك، يُرجّح أن تعتمد طهران سياسة “الغموض النووي المعزز”، عبر مواصلة التخصيب عالي المستوى دون إعلان صريح عن نية تصنيع السلاح، بما يوفّر هامش مناورة دون الدخول في مواجهة مباشرة. وعليه، فإن احتمال اتخاذ قرار رسمي بامتلاك القنبلة يبقى متوسطًا ومشروطًا بتطورات البيئة الأمنية والدبلوماسية.
أما في المدى المتوسط (1–3 سنوات)، فإن فشل أي مسار تفاوضي جاد، خصوصًا مع إدارة الرئيس ترامب، قد يدفع إيران إلى تجاوز الحذر السياسي والديني، واتخاذ قرار استراتيجي بالعبور النووي الصريح. وفقًا لنظرية اللعبة، تتحول الحالة هنا إلى “الانسحاب المكلف لكن العقلاني”، أي أن تكلفة امتلاك السلاح النووي قد تبدو عالية، لكن تكلفة عدم امتلاكه تصبح أعلى في ظل تآكل الردع. في هذا الإطار، يرتفع الاحتمال بشكل ملموس، خاصة إذا استمر التصعيد العسكري وتعمّقت العزلة الدولية.
وفي المدى البعيد (ما بعد 3 سنوات)، فإن الاحتمال يظل قائمًا وإن ارتبط بمجموعة من المتغيرات الهيكلية مثل استقرار النظام، طبيعة القيادة المقبلة، توازنات القوى في الإقليم، ومستوى التوتر مع الغرب. فإذا ما تحقق إدماج إيران في نظام أمني إقليمي أو استُعيدت الثقة الدولية، قد تتراجع دوافع التصعيد النووي. ومع ذلك، يبقى الخيار مطروحًا في الخلفية كاحتياطي استراتيجي، تستخدمه إيران بحسب تقلبات البيئة الجيوسياسية.
في ضوء كل هذه المعطيات، يمكن القول إن العدوان الأمريكي–الإسرائيلي الأخير لم يفتح الباب فقط أمام تحول نظري في العقيدة النووية الإيرانية، بل دفع بهذا التحول خطوات إلى الأمام. ورغم إدراك طهران للمخاطر الجسيمة المترتبة على امتلاك السلاح النووي فإن هذا الخيار لم يعد خارج الحسابات الاستراتيجية العقلانية، بل تحوّل إلى مسار قابل للنظر والتنفيذ بجدية متزايدة. من هنا، نعم – لقد فتح العدوان الباب، ليس بالضرورة نحو القنبلة ذاتها، ولكن نحو شرعنة التفكير الجدي فيها كاولوية داخل أروقة القرار الإيراني الواقعي، بكل ما لذلك من انعكاسات إقليمية ودولية.