
الحصانة الثقافية للشباب الفلسطيني ، أداة لمقاومة الإبادة الإسرائيلية للثقافة والتراث ، بقلم : رشاد ابو حميد
في زمنٍ تتكثّف فيه الهجمة الإسرائيلية على كل ما يمتّ إلى الوجود الفلسطيني بصلة—أرضًا، وإنسانًا، وهوية—تغدو الحصانة الثقافية للشباب الفلسطيني واحدة من أكثر أدوات المقاومة السلمية تأثيرًا وعمقًا. فالثقافة، في التجربة الفلسطينية، لم تكن يومًا ترفًا فكريًا أو نشاطًا هامشيًا، بل شكّلت على الدوام خط الدفاع الأول عن الرواية الوطنية، والذاكرة الجماعية، والجذور التاريخية الممتدة في هذه الأرض منذ آلاف السنين.
الحصانة الثقافية: وعيٌ يحمي الهوية
تعني الحصانة الثقافية قدرة الشباب على فهم ثقافتهم الوطنية، والوعي بقيمها ورموزها، والتمسك بسرديتهم التاريخية والاجتماعية والجمالية، بما يحول دون تذويبهم أو اقتلاعهم من سياقهم الحضاري. وهي ليست مجرد معرفة نظرية، بل ممارسة يومية، ووعي نقدي، وطاقة مقاومة تتكامل مع الفعل السياسي والنضالي على الأرض.
وفي ظل الإبادة الإسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين—بأشكالها البشرية والمادية والثقافية—أصبح تحصين الوعي الثقافي لدى الشباب ضرورة وجودية. إذ لا يقتصر الاستهداف على الإنسان وحده، بل يمتد إلى الذاكرة، عبر تدمير البيوت والمكتبات، وقصف المراكز الثقافية والمتاحف، وسرقة التراث المادي واللامادي، وطمس أسماء الأمكنة، وفرض رواية استعمارية بديلة تحاول نفي الوجود الفلسطيني من التاريخ والجغرافيا.
الشباب الفلسطيني: خط الدفاع الأول عن الذاكرة
يشكّل الشباب اليوم ما يقارب 70% من المجتمع الفلسطيني، وهو رقم يتجاوز الدلالة الديموغرافية ليعكس قوة حقيقية في معركة صون الهوية. فالشباب هم الأقدر على إعادة إنتاج السردية الفلسطينية بوسائط جديدة، من خلال الأدب والفنون والإعلام الرقمي، وعلى توثيق الاعتداءات اليومية على التراث والمقدسات باستخدام الهواتف والكاميرات، ونقل الحقيقة الفلسطينية إلى العالم بلغاته المختلفة.
لقد أثبتت التجربة، لا سيما خلال العدوان على غزة، أن آلاف الشبان تحولوا إلى مراسلين، ومبدعين، وصنّاع محتوى، يواجهون الرواية الإسرائيلية بالصوت والصورة والكلمة. وهذه القدرة على إنتاج المعرفة وتوثيق الذاكرة تمثّل في جوهرها إحدى أقوى أشكال الحصانة الثقافية في العصر الحديث.
الإبادة الثقافية: جوهر المعركة على الوجود
الإبادة الثقافية ليست أقل خطرًا من الإبادة الجسدية؛ فهي تستهدف ما يبقى بعد الجريمة. وقد تجلّت هذه السياسة الإسرائيلية بوضوح في تدمير المسارح والمكتبات ومراكز الفنون، وسرقة الثوب الفلسطيني وتسجيله كتراث إسرائيلي، وطمس المعالم التاريخية في القدس والخليل ويافا وحيفا، وتغيير أسماء القرى والشوارع، واعتقال الكتّاب والفنانين، واستهداف المؤسسات الثقافية.
تهدف هذه السياسات إلى خلق فراغ ثقافي وتاريخي، يُعاد ملؤه بسردية استعمارية زائفة. ومن هنا، يصبح دور الشباب في إعادة تعبئة هذا الفراغ بالرواية الوطنية فعلًا مقاومًا لا يقل أهمية عن أي شكل آخر من أشكال المواجهة.
الثقافة كسلاح: دروس من تجارب الشعوب
تؤكد تجارب الشعوب المضطهدة عبر التاريخ أن الثقافة كانت دومًا ملاذًا للمقاومة. ففي جنوب أفريقيا، أسهم الفن والمسرح والشعر في تفكيك نظام الفصل العنصري، وحافظت الأغاني الثورية والأعمال الإبداعية على الوعي الجمعي حيًا حتى لحظة التحرر. وفي البوسنة والهرسك، واصل الفنانون والكتّاب عملهم داخل سراييفو المحاصرة، دفاعًا عن الذاكرة في وجه التطهير العرقي. أما الشعوب الأصلية في أميركا اللاتينية، فقد واجهت محاولات الإبادة الثقافية بإحياء لغاتها وتراثها، وتمكين شبابها من قيادة نهضة ثقافية متجددة.
هذه التجارب تمنح الشباب الفلسطيني دليلًا إضافيًا على أن الثقافة ليست هامشًا في معركة التحرر، بل أحد أعمدتها الأساسية.
كيف تُبنى الحصانة الثقافية؟
يتطلب تحويل الثقافة إلى قوة مقاومة فاعلة جملة من الخطوات العملية، أبرزها: تعزيز القراءة والتثقيف الذاتي في التاريخ والأدب والتراث الفلسطيني، والانخراط في الفعاليات الثقافية والمراكز المجتمعية، وتوثيق الجرائم وتحويلها إلى مواد معرفية وفنية، وإنتاج محتوى رقمي يعكس الحقيقة الفلسطينية بلغات متعددة، إلى جانب إحياء الفنون الشعبية مثل الدبكة والتطريز والحكاية، وإطلاق مبادرات شبابية لصيانة البلدة القديمة والمواقع التاريخية، والعمل على مشاريع الترجمة لنقل الرواية الفلسطينية إلى العالم.
الثقافة: ذاكرة تصنع المستقبل
إن تمسّك الشباب الفلسطيني بثقافتهم لا يخدم الماضي وحده، بل يحمي المستقبل. فالثقافة المستهدفة اليوم هي ذاتها التي ستشكّل خطاب الدولة الفلسطينية غدًا، وستبقى الركيزة الجامعة للهوية الوطنية. وتمكين الشباب ثقافيًا هو استثمار طويل الأمد في الأمان الثقافي الفلسطيني، وفي قدرة المجتمع على الصمود أمام سياسات الاقتلاع والطمس.
ليست الحصانة الثقافية للشباب الفلسطيني شعارًا نظريًا، بل واقعًا حيًا يتجسّد في إبداعهم اليومي، وصمودهم، وقدرتهم على تحويل الألم إلى حكاية، والدمار إلى ذاكرة، والظلم إلى خطاب عالمي يفضح الاحتلال. وفي مواجهة الإبادة الإسرائيلية الهادفة إلى محو كل ما هو فلسطيني، يصبح تعزيز هذه الحصانة واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، ومحورًا أساسيًا في مشروع التحرر.
فالشباب الذين يحملون ثقافتهم… هم وحدهم القادرون على حمل فلسطين إلى المستقبل.
- – رشاد ابو حميد – مدير وزارة الثقافة في محافظة الخليل
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .