11:45 مساءً / 28 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

حين يصير التضامن جسراً من الضوء.. من فلسطين إلى اليابان ، بقلم : محمد علوش

حين يصير التضامن جسراً من الضوء.. من فلسطين إلى اليابان ، بقلم : محمد علوش

لم تكن رحلتي إلى اليابان مجرّد انتقال جغرافي من ضفّة محاصرة إلى أرخبيل تغسله أنفاس الفجر، بل كانت عبوراً عاطفياً وروحياً إلى فضاءات جديدة من الإنسانية؛ فضاءات لا تقاس بالمسافة، ولا تحدّ بزمن، ولا تترجَم بلغة واحدة.


ذهبت بدعوة من منظمة “زينكو” حاملاً معي وجع فلسطين وكرامتها، وخلفي بيت يضمد ندوبه بالصبر، وعائلة تعيش على احتمال يشبه تنفّس الجمر، وحين وصلت، اكتشفت أن اليابان، بكل رقيّها الهادئ، كانت تفتح لي حضناً إنسانياً واسعاً يمتدّ من أوساكا إلى كيوتو، ومن شيغا إلى هيروشيما، عبر وجوه تستقبلك كما لو أنك واحد من أبنائها.


أصدقاء اليابان الذين التقيت بهم لم يصغوا إلى شهادتي بوصفها حدثاً سياسياً، بل تلقّوها كجرح ينزف أمامهم، رأيت في أعينهم وجعاً صافياً حين تحدّثت عن الأطفال الذين لا يعرفون لون البحر لأن الجدار يقطع عنهم الأفق، ورأيت الدموع تبلّل وجوههم حين ذكرت ابني الذي اضطر، في الثالثة عشرة فقط، أن يتحدّث بوعي يتجاوز عمره بسنوات طويلة، ويمشي فوق ركام الواقع كأنه رجل يحاول إنقاذ ما تبقّى من طفولته، وفي كل مدينة وقاعة شعرت أن كلماتي كانت تتشكّل في صدور الحاضرين قبل أن تنطق بها شفتاي.


لقد أصغوا إليّ كما لو أنهم يسمعون فلسطين للمرة الأولى؛ لا بوصفها خبراً عابراً، بل كقصة تطلّ من لحم إنسان، وكانوا يكتبون كل جملة كأنها وصيّة، ويتابعون كل لحظة كأنهم يمسكون بيد طفل من غزة يخشون أن يسقط، وبعضهم قال: “لن نسمح بأن تنسى الحقيقة”، وبعضهم همس: “كلماتك جعلتنا ندرك أن مقاومة الفلسطينيين ليست صراعاً سياسياً، بل كفاحاً لاستعادة الكرامة الإنسانية”، وأكثر ما هزّني أن كثيرين رأوا أن ذاكرة هيروشيما ونكبة فلسطين تتقاطعان في الجرح ذاته: ألا يولد طفل آخر ليكون وقوداً لحرب جديدة.


في أوساكا، حين تجاوز عدد المشاركين ثلاث مئة إنسان، شعرت أن فلسطين لم تعد تسافر وحدها، وأن كل كلمة كنت أقولها تُبنى عليها خطوة جديدة في طريق التضامن، وكل دمعة سقطت من أحدهم كانت تعيد إلى قلبي شيئاً من الشفاء الذي افتقدته وسط سنوات طويلة من الفقد والفراق، وكثيرون أخبروني بعد اللقاء أنهم لم يعرفوا اتّساع المأساة إلا حين سمعوا صوتها حيّاً، لا عبر شاشة ولا خبر مقتضب، وأحدهم قال: “الصور لم تحرّكني كما فعل صوتك”، وآخر قال: “جعلتني أفكّر بأن مستقبل أطفال فلسطين يمكن أن يعانق مستقبل أطفال اليابان”.


وحين تحدّثت عن النضال اللاعنفي، وعن إيماني بأن العالم لا يصلحه السلاح بل الحقيقة، رأيت كيف تجذّر هذا الإيمان في نفوسهم، كانوا يدركون أن الاحتلال يحاول تحويل الألم إلى كراهية، لكنهم رأوا أن المقاومة في جوهرها محاولة لاستعادة الحياة، لا لاستعادة السلاح، ورأيت في وجوههم استعداداً لنقل الحقيقة، والوقوف في وجه حكومتهم حين تغضّ الطرف عن صناعة السلاح، وإسناد حركة المقاطعة BDS بشجاعة لافتة.


وما قدّموه لم يكن تضامناً سياسياً فقط، بل كان نسيجاً إنسانياً كاملاً. رأيت من يصنع لي طائراً ورقياً ويحمّله أمنية: “غزة حرّة”، ومن يكتب لي رسالة ترتجف حروفها من شدّة التأثّر، ومن يقول: “نحن نعتبرك فرداً من عائلتنا”، وبعضهم كان يبكي وهو يحدّثني عن طفله أو حفيدته، كأن معاناة أطفال فلسطين اخترقت جدار المسافة ودخلت قلب كل بيت ياباني حضر اللقاء.


وفي كل مرة ذكرت فيها أصدقائي الشهداء، أو بيوتنا التي تقتحم، أو زوجاتنا وأمهاتنا اللواتي لا يستطعن الحصول على العلاج، رأيت وجوهاً يكسوها حزن عميق، لكنه لا يتحوّل إلى يأس؛ بل يتحوّل إلى إرادة جديدة، كأن اليابان تعيد تعريف التضامن، ليس شعوراً عابراً، بل التزاماً طويل النفس، وإرادة لإضاءة العالم من نقطة صغيرة على الخريطة.


لقد منحتني هذه الجولة شيئاً يشبه الشفاء، وسط الفقد الكبير الذي أعيشه، ووسط الغياب الذي يعضّ القلب، شعرت أن في هذا العالم أناساً يعيدون للروح معناها، فالذين وقفوا أمامي في شيغا وكيوتو وهيروشيما وأوساكا لم يكونوا مجرّد جمهور، بل كانوا مرآة صافية لإنسانيتنا المشتركة، تحدّثت إليهم عن الأطفال فبكوا، وعن الأمل فابتسموا، وعن المقاومة اللاعنفيّة فوقفوا معي، وعن غزة فقالوا: “أنت لست وحدك”.


وحين غادرت اليابان، غادرتها محمولاً بكل تلك الكلمات التي ما تزال تتردّد في قلبي مثل أنشودة بعيدة، فلقد أعاد أصدقائي هناك إلى روحي شيئاً من القدرة على التنفّس، وشيئاً من الإيمان بأن التضامن ليس مظاهرة عابرة، بل فعل متواصل قد ينقذ حياة، وقد يغيّر تاريخاً.


ما رأيته في اليابان لم يكن تعاطفاً فحسب، بل تحالفاً إنسانياً نبيلاً يشبه جذور الأشجار التي تتشابك في باطن الأرض لتمنع الريح من اقتلاعها، ولهذا أقول لكل من التقيتهم هناك: إنكم لم تستمعوا إليّ فقط، بل سمعتم فلسطين نفسها؛ سمعتم نبض أطفالها، وصرخة أمهاتها، وإرادة رجالها ونسائها، وسمعتم أيضاً ما هو أبعد من الكلمات، أن العالم يمكن أن يكون مكاناً أرحب إذا وقف الناس معاً، ببساطة، وبشجاعة، وبقلب مفتوح للحقيقة، ففي عالم يضجّ بالظلم، جعلتموني أؤمن من جديد بأن الإنسانية لا تزال قادرة على أن تنقذ نفسها.


شكراً لكم.. لأنكم أعدتم إلى الروح ما يكفي من الضوء كي تواصل الطريق.

شاهد أيضاً

منى أبو حمدية

حين يتقدّم الجيل ، وتتنفّس فتح من جديد ، قراءة معمقة في خطاب فخامة الرئيس محمود عباس ، بقلم: د. منى أبو حمدية

حين يتقدّم الجيل ، وتتنفّس فتح من جديد ، قراءة معمقة في خطاب فخامة الرئيس …