
أمراء الحرب في غزة… اقتصاد الظلال فوق ركام المعاناة ، بقلم: المهندس غسان جابر
في تاريخ الشعوب محطات يختلط فيها الدخان بالغبار، فلا يعود الناس يرون ما يجري حولهم بدقة، ولا يسمعون إلا ما تفرضه اللحظة. وفي غزة، الممتدة على حافة الوجع منذ أكثر من عقد ونصف، تشكلت خلال سنوات الحصار الطويلة طبقة جديدة لم تظهر في البيانات ولا في المؤتمرات، لكنها ظهرت في الأسعار، وفي طوابير الانتظار، وفي السوق التي أخذت تتسع في الظل كلما ضاق الضوء في العلن.
هذه الطبقة التي اصطلح الناس على تسميتها — بغير تسمية رسمية — “أمراء الحرب”، لم تولد من فراغ، ولم تنشأ لأن غزة أرض خصبة للفساد. بل ولدت لأن الحصار طويل، ولأن الحرب متكررة، ولأن الفجوات التي يتركها الانقسام أكبر من أن تُغلق بقرارات. وهكذا، تمددت شبكات صغيرة حول المعابر، ثم تضخمت لتصبح قادرة على التحكم بدخول سلعة، وتأخير أخرى، وتحديد ثمن ثالثة.
إن الحصار وحده لا يصنع أمراء حرب. لكنه يصنع البيئة التي ينشأون فيها. وعندما ترتفع الجدران، وتتراجع المؤسسات، وتصبح الحياة اليومية مرهونة بقرارات عسكرية، يدخل لاعبون جدد يتقنون لغة السوق أكثر مما يتقنون لغة السياسة، ويعرفون طريق الربح حين يختلط الألم بالارتباك.
بين الحصار والاقتصاد… حكاية غير مرئية
غزة لم تكن يومًا مجرد جغرافيا صغيرة. كانت دائمًا ساحة صراع أوسع من مساحتها. ولأن الاحتلال يدرك أن السيطرة لا تكتمل بالمدفع وحده، فقد جعل من المعابر أداة للحكم. كل شاحنة تدخل، وكل تصريح يمر، وكل مادة تُصنَّف “استخدامًا مزدوجًا”، كلها أصبحت جزءًا من اقتصاد الدقة والابتزاز، حيث لا شيء يتحرك بلا ثمن، ولا ثمن بلا وسيط.
ومع الوقت، ولدت لغة جديدة في السوق:
ليست لغة العرض والطلب، بل لغة “التنسيقات” و“الترتيبات” و“المعابر المغلقة اليوم”.
أرقام الرسوم غير القانونية كانت صادمة، لكن الأكثر صدمة أنها أصبحت جزءًا طبيعيًا من دورة البضائع.
تاجر يريد إدخال شحنة رز؟ أمامه وسيط.
يريد إدخال شاحنة مولدات كهربائية؟ أمامه وسيط آخر.
أما المواطن، فكان يدفع ثلاث مرات: مرة للحصار، ومرة للسوق السوداء، ومرة للغلاء الفاحش.
هكذا، شيئًا فشيئًا، لم يعد الناس يعرفون إن كانوا يشترون السلعة… أم يشترون طريقها.
الالتباس الأخطر: حين تختلط المقاومة بالسوق السوداء
غزة مدينة مقاومة قبل أي وصف آخر. وهذه حقيقة لا يمكن العبث بها.
لكن الالتباس الذي حدث — بفعل الحرب والحصار وتضارب الأدوار — أدى إلى ظهور صورة مشوشة:
أين تبدأ المقاومة؟
وأين يبدأ اقتصاد الظلال؟
من يدافع عن الوطن؟
ومن يدافع عن حصته من المعبر؟
لم يكن هذا الالتباس مسؤولية جهة واحدة، بل مسؤولية منظومة كاملة توزعت فيها القوة بين الاحتلال، وجهات محلية، وتجار محاصرون، وغياب رقابة موحدة.
ومع ذلك، بقيت الصورة الأكثر ظلمًا هي صورة المواطن الذي يبحث عن الدواء والغذاء، بينما يجد نفسه محاصرًا لا بالحدود فقط، بل بمن يستفيد من الحدود.
الشبكة… ثلاثة أطراف وحلقة واحدة ضعيفة
في كل اقتصاد ظل، مهما اختلفت الجغرافيا، هناك ثلاثة أطراف:
- الطرف الذي يسمح بالدخول — الاحتلال،
- الطرف الذي يملك مفاتيح الترتيبات — الوسطاء وأصحاب النفوذ،
- والطرف الذي يدفع الثمن — المواطن.
هذه الشبكة لا أحد يعلنها، ولا أحد ينفيها، لكنها تعمل في صمت، وتتغذى على الفوضى، وتكبر بقدر ما يكبر غياب الدولة.
لحظة المكاشفة: هل نملك أن نغلق هذا الباب؟
الحرب الأخيرة لم تكتفِ بكشف الوجع، بل كشفت ما كان تحت الوجع. الأرقام خرجت إلى العلن، والشهادات تجرأ أصحابها على الكلام، والسؤال بات مطروحًا بصوت مرتفع:
كيف تحول الحصار إلى تجارة؟
وكيف أصبح إدخال الحليب والدواء مشروعًا مربحًا؟
ومن الذي سمح لنصف مليون شيكل أن تكون ثمن شاحنة واحدة؟
لكن الجواب الأخطر ليس في الأسماء — مهما كانت أهميتها — بل في البنية التي سمحت للأسماء أن تظهر.
غزة اليوم بحاجة إلى خطوة صعبة لكنها ضرورية:
خطوة تسمى في لغة السياسة “لحظة المكاشفة”.
ليس بهدف الفضيحة، بل بهدف البناء.
ليس للانتقام، بل من أجل أن لا يتكرر هذا الاقتصاد مرة أخرى فوق ركام جديد.
نقول: غزة أكبر من تجار الظلال
في النهاية، غزة ليست مدينة يسهل التلاعب بها.
قد تُنهك، وقد تُحاصر، وقد يُضيّق عليها، لكنها سرعان ما تنتفض على من يحاول أن يجعل من وجعها طريقًا للربح.
سيذكر الناس أسماء الشهداء قبل أسماء السماسرة.
وسيذكرون من فتح الطريق لا من أغلقه، ومن حمى المرفأ لا من باع تصريحه.
وغزة — التي خرجت من حرب وراء حرب — قادرة على الخروج أيضًا من اقتصاد الظلال إذا قررت أن يكون معبرها ودمها واقتصادها بيد أبنائها لا بيد من يقتاتون من الرماد.
غزة ستبقى.
وأمراء الحرب… مهما كبروا، سيبقون مجرد هامش في قصة شعب أكبر من كل مَن حاول أن يستولي على معاناته.
م. غسان جابر – قيادي فلسطيني.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .