11:40 صباحًا / 19 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

قراءة انطباعية ، قصة رصاصة وكأس ماء للكاتبة الفلسطينية إيمان مرشد حمّاد ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

قراءة انطباعية ، قصة رصاصة وكأس ماء للكاتبة الفلسطينية إيمان مرشد حمّاد ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

قراءة انطباعية ، قصة “رصاصة وكأس ماء”للكاتبة الفلسطينية إيمان مرشد حمّاد ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات

قصة “رصاصة وكأس ماء” ليست مجرد نص أدبي يُقرأ، بل هي تجربة إنسانية كاملة تُلامس الروح وتزرع في الذاكرة صوراً لا تمحى . نصّ يتجاوز حدود الحكاية ليقدّم شهادة حيّة عن يوميات الفلسطيني في ظلّ الاحتلال، وعن الأمومة القادرة على اختراق صفوف الخوف والرصاص لتبقى وفية لنداء الحياة. تقدّم الدكتورة إيمان مرشد حمّاد عملاً أدبياً ينصهر فيه الوجدان بالواقع، ويعلو فيه الصدق فوق كل زخرفة لغوية، لتخرج قصة مشبعة بالقوة، مشحونة بالألم، مكتوبة بوعي أدبي كبير، ولغة عالية تمسك بالقلب من أول سطر حتى آخر صورة.

منذ افتتاح القصة، يُلقى القارئ مباشرة في قلب العاصفة. لا مقدّمات طويلة، بل مشهد يبدأ بهدير الدبابات الذي يملأ الفضاء رعباً، ليغدو الليل الفلسطيني وحشاً مترصّداً، وتتحول لحظات النوم إلى معارك مع الخوف والترقّب. هنا تظهر شخصية أم محمد، وهي ترتدي حجابها بحركة فطرية تحمل الكثير من الدلالات: الاستعداد، الكرامة، الثبات، والجهوزية لأي طارق ليلي قد يقتحم البيت. ورغم اهتزاز قلبها، تظلّ هي نقطة الأمان الوحيدة لأطفالها الأربعة الذين يغطّون في نوم بريء، كأنما الأطفال وحدهم يمتلكون القدرة على النجاة من ثقل الواقع.

تتجلّى براعة الكاتبة في قدرتها على تصوير مشهد الاقتحام بعمق واقعي لا يحتاج إلى مبالغة. الجنود الذين يقتحمون البيت ويخربون الأثاث ويدوسون ذكريات المكان ليسوا مجرد تفاصيل سردية، بل هم الوجه اليومي لاحتلال يعبث بكل شيء. تجعلنا الكاتبة نسمع وقع الأحذية الثقيلة، وارتطام البنادق بالأبواب، ونَفَسَ الرعب وهو يتسرّب إلى زوايا البيت. وفي لحظة دقيقة، تُطلّ ابتسامة ساخرة على شفتي أم محمد حين تتذكر أنها لم تكن مهتمة بالسياسة يوماً … وكأنها تقول إن واقع الفلسطيني أقوى من خياراته، وإن السياسة تمشي إليه حتى لو ابتعد عنها.

ثم تأتي الذروة الأولى حين يُعتقل الزوج تحت الركل والصراخ، وسط نظرات النساء المذعورة خلف النوافذ. تنهار أم محمد فوق ركام المنزل، يُغرقها البكاء الذي يخرج من أعمق مناطق الألم، وكأنها تُفرغ في تلك اللحظة كل خيباتها ووجعها. لكن انهيارها لا يطول؛ فالأمومة تُعيدها إلى الواقع فجأة، حين تكتشف غياب ابنتها الصغيرة فاطمة.

تظهر الطفلة وهي تحمل كأساً فارغاً، وجهها يتقد كالجمرة من شدّة الحمى. هذه الصورة وحدها تكفي لإعادة تشكيل المشهد كله: طفلة محمومة، أم عاجزة، وبيت محاصر. تبحث أم محمد بجنون عن دواءٍ منتهي الصلاحية، لكن الأمل يموت في يدها. وهنا يدخل النص في قلب المأساة: القرار الذي لا يُتخذ بالعقل، بل بغريزة الأمومة الخالصة.

تحمل أم محمد طفلتها، وتخرج إلى الشارع رغم القناصة والدبابات وحظر التجول. إنّه قرار يبدو مجنوناً ، لكنه في ميزان الحبّ القرار الأكثر عقلاً . في اللحظة التي يصبح فيها الخوف بلا قيمة أمام حرارة ابنتها، تستقر رصاصة قناص في ظهر الأم… لتسقط، وتترك الحياة معلّقة بين موت الأم واحتياج الطفلة لكأس ماء.

تبلغ القصة ذروتها المطلقة في النهاية، حيث ترسم الكاتبة واحدة من أبشع وأجمل الصور في الأدب الفلسطيني المعاصر:


فاطمة الصغيرة تلعب بجوار جثمان أمها، تجمع الرصاصات الفارغة كأنها ألعاب، وتواصل بحثها عن كأس ماء يطفئ لهيب الحمى.


يا لوقع المفارقة!
رصاص في كل مكان… وماء غائب.
حياة تُغتال برصاصة… وطفلة تبحث عن أبسط حقوقها.
بهذه النهاية، لا تُوثّق الكاتبة مشهداً فردياً فقط؛ بل تخلق رمزاً لكل أم فلسطينية تستشهد دفاعاً عن أبنائها، ولكل طفل يواصل الحياة رغم الفقد، رغم القصف، رغم كل شيء.

اللغة والأسلوب: قوة تُلامس الأعماق

تكتب الدكتورة إيمان بلغة قوية، مكثفة، مشبعة بالصور الحيّة التي تتنفس أمام القارئ. لا تعتمد على الزينة اللفظية، بل على حرارة الموقف وصدقه. تصوغ الجملة كأنها نبضة، وتبني المشهد كأنها تلتقط صورة فوتوغرافية دقيقة التفاصيل. أسلوبها مزيج من السلاسة والعمق، ومن الرهافة والقسوة، بحيث لا يشعر القارئ أنه يقرأ قصة فقط، بل يعيشها بكامل حواسه.

الرمزية البديعة في العنوان: “رصاصة وكأس ماء”


العنوان ذاته عمل فني مستقل.
كلمتان فقط تصنعان عالماً كاملاً،
الرصاصة رمز للموت، للغزو، للقمع، وللاقتحام الذي لا يفرق بين أم وطفل.
كأس الماء رمز للحياة، للأمومة، للحاجة البسيطة التي تُحرم منها طفلة بريئة.
بين الرصاصة وكأس الماء تتجسد فلسطين: رصاصة تسلب الحياة، وقطرة ماء تمنحها… لكنها لا تصل.
إنه عنوان يلخّص القصة بأكملها، ويجعل من النهاية جرحاً يتفتح في قلب كل قارئ.

“رصاصة وكأس ماء” ليست قصة تُقرأ، بل تجربة تُعاش.
هي نصّ إنساني مكتوب بدمعٍ ودم، بلغة قوية وأسلوب متماسك يوازن بين الشعرية والواقعية.
هي شهادة على صمود الأم الفلسطينية، وعلى قدرة الأدب أن يحوّل الألم إلى معنى، والمأساة إلى جمال موجع.

إنها قصة تبقى طويلاً في الذاكرة… تُقرأ مرة واحدة، لكن صداها يبقى يرنّ عشرات المرّات في القلب.

شاهد أيضاً

الرئيس الصيني شي جين بينغ

الرئيس شي يحث على فتح آفاق جديدة في دفع سيادة القانون في الصين

شفا – دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الحفاظ على وحدة قيادة الحزب وإدارة …