
هيروشيما.. ذاكرة النار والإنسان ، بقلم : محمد علوش
لم تكن زيارتي إلى مدينة هيروشيما اليابانية مجرّد رحلة عابرة في الجغرافيا، بل كانت عبوراً عميقاً في الذاكرة الإنسانية، هناك، حيث احترقت المدينة بالنار الذرية قبل ثمانين عاماً تقريباً، ظلّ الجرح مفتوحاً، لكنه تحوّل إلى رسالة سلام وإلى نداء إنسانيّ لا يشيخ.
في حديقة السلام التذكارية، تلك الرقعة الخضراء التي نبتت على رماد الألم، مشيت بخطى بطيئة كمن يخشى أن يوقظ الأرواح النائمة في التراب، فالأشجار الوادعة، والطيور الورقية الملوّنة التي يعلّقها الأطفال والزائرون على الأغصان، تشبه الأمنيات التي تصرّ على البقاء حيّة رغم كل ما جرى.
اقتربت من متحف القبة الذرّية (جنباكو دوم)، تلك القبة التي بقيت شاهداً على لحظة الجنون البشري، وعلى القدرة اليابانية الفريدة في تحويل الحطام إلى ذاكرة مضيئة ورسالة حضارية خالدة.
توقّفت طويلاً أمام ضريح الضحايا المجهولين، حيث تكرَم أرواح الآلاف الذين صعدوا إلى السماء دون أن يكتب لهم شاهد أو قبر، لم يكونوا أرقاماً كما تحبّ الإحصاءات أن تقول، بل وجوهاً وأحلاماً وأسماء، كانوا أطفالاً يلعبون قرب النهر، ونساء يخبزن الحياة، ورجالاً يتطلعون إلى غد لم يأت.
ذلك النهر – نهر أوتا الذي يمرّ بهدوء الآن بين الجسور والحدائق – كان ذات يوم نهراً من النار، حمل جثثاً وأشلاء وأسراراً كثيرة، وقفت أمامه طويلاً أتأمل مياهه التي تلمع تحت الشمس، كأنها ما زالت تحفظ صدى الانفجار وبقايا الوجع الإنساني العابر للأزمنة.
من هناك، من قلب المدينة التي نهضت من رمادها، لم أستطع أن أفصل ما رأيته عن غزة اليوم، فالجريمة واحدة، والإنسان واحد، ففي لوحات المتحف التي توثّق لحظة التفجير، رأيت وجوهاً تشبه أطفال غزة، وبيوتاً كأنها من ركام حيّ الشجاعية أو رفح، وعيوناً تحمل ذات الأسى، وفي كل مشهد من هيروشيما وجدت صدى لفلسطين، كأن التاريخ يعيد نفسه بأسماء جديدة، وأدوات قتل أكثر حداثة.
وفي المساء، كان اللقاء الذي نظمته لي منظمة زينكو اليابانية – التجمع الوطني للسلام والديمقراطية – محطة أخرى من الذاكرة، حيث حضر جمع واسع من اليابانيين المتضامنين مع فلسطين، ووجدت فيهم صدق المشاعر وعمق الوعي الإنساني. شعرت أن هيروشيما التي نهضت من رمادها تمدّ يدها اليوم إلى غزة المحترقة، لتقول لقد مررنا من هنا، ونعرف تماماً معنى أن يحرق الأطفال تحت السماء.
وبعد الندوة، كانت سهرة دافئة مع عدد من الرفاق اليابانيين في حفل عشاء بسيط، لكنّ القلوب فيه كانت أكثر دفئاً من الموائد، حيث تحدّثنا عن النضال الإنساني المشترك، وعن الحلم بعالم بلا حروب، وعن الذاكرة التي لا تموت.
وفي الظهيرة، قبل الندوة، تذوّقت طبق الأوكونومياكي – شطيرة هيروشيما الشهيرة – تلك الوجبة التي تجمع في طيّاتها نكهات متعدّدة كما تجمع المدينة بين الحزن والأمل، وبين الدمار والبعث من جديد.
غادرت هيروشيما إلى العاصمة طوكيو عبر القطار السريع مثقلاً بالصور، لكن ممتلئاً باليقين أن هذا العالم، مهما اشتدت حروبه، لا يزال قادراً على أن يشفى بالحب، وأن ينهض بالتضامن، وأن يقول لا للحرب بصوت واحد، من غزة إلى هيروشيما، ففي النهاية، لا يموت الإنسان إلا حين ينسى، وهيروشيما لا تنسى.. كما لن تنسى فلسطين.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .