
أما آن للفينيق التعليمي أن ينهض؟ بقلم : بقلم: ثروت زيد الكيلاني
يبدأ الطالب الفلسطيني يومه كرحلة عبر طبقات الواقع والجذر، بين أنقاض تحاول أن تمحو الوعي وبين فضاءات المعرفة التي تظل تتنفس، باحثاً عن معنى وجوده في كل صفحة ودرس وحصة. كل خطوة نحو المدرسة هي امتحان للصمود، ومسرح لإعادة صياغة الذات، ومحاولة لتجاوز القيود المفروضة على الحرية في زمن يتشح بالخراب. بين الفراغات المهدمة وأسوار الواقع، يحاول الطالب أن يجد في كل درس لمحة أمل، وفي كل كتاب صدى لهويته، ليحوّل التجربة التعليمية إلى بصمة وجودية تحمي حقه في التعلم والحياة.
يحمل المعلم الفلسطيني رسالته كحارس للمعنى، يزرع الفضول في العقول ويحوّل الفقد والانكسار إلى أدوات لصياغة فهم أعمق للهوية والواقع. في كل فصل، يخلق فضاءً يتحرك فيه الطلاب بين المعرفة والخيال، بين السؤال وصون المعنى الرمزية للظروف، لتتشكل لديهم قدرة على صناعة معنى شخصي وجماعي وسط التحديات اليومية. كل حصة تصبح مختبراً للوعي، حيث تتحول المعرفة إلى قوة، والأسئلة إلى جسور بين الواقع والأمل، والصبر إلى ممارسة يومية للحرية والفكر.
هنا، يتحوّل التعليم الفلسطيني إلى صيرورة تربط الفرد بالهوية والمجتمع والوطن، عبر البحث المستمر عن المعنى في كل تجربة تعليمية. كل كتاب يُفتح، وكل مهمة تُنجز، وكل حديث في الفصل يحمل إمكانية تحويل الألم إلى وعي، والفقد إلى معرفة، والصمود إلى أفق أمل متجدد. يصبح التعلم رحلة وجودية حية، ممارسة للحرية وسط القيود، حيث يتقاطع البحث عن المعنى مع الوعي الذاتي، ويتحول كل يوم دراسة إلى مساحة لإعادة اكتشاف القدرة على الصمود، ولترسيخ الانتماء، ولتحويل التحديات إلى فعل إنساني نابض بالحياة.
ولفهم كيف تتجسّد هذه الصيرورة الوجودية في الواقع اليومي، يصبح من الضروري الانتقال من مستوى الفكرة إلى معطيات الميدان، ومن التأمل في المعنى إلى قراءة الوقائع التي تشكّل الخلفية الملموسة للتجربة التعليمية الفلسطينية. فالمعنى لا يولد في الفراغ، بل يتكون داخل سياق سياسي واجتماعي شديد التعقيد ينعكس مباشرة على المدرسة والمعلم والطالب.
التشخيص والتحليل: رؤية الواقع الفلسطيني من خلال عدسة المعنى والصمود
ينطلق هذا التشخيص من إطار تحليلي ثلاثي يجمع بين منظور المعنى بوصفه جوهر التجربة التعليمية، ومنظور الصمود التربوي الذي يقرأ قدرة المنظومة على تحويل الألم والتهديد إلى وعي ومعرفة، ومنظور السياسات التعليمية في بيئات النزاع الذي يفحص أثر الاحتلال، والتمويل المشروط، والانقسام على بنية القرار التربوي. وباعتماد هذه العدسة المركّبة، يصبح تحليل الواقع الفلسطيني أكثر قدرة على كشف العلاقات العميقة بين الوجود والمعرفة، وبين الأرقام والسياق، وبين ما يتشكل داخل الصف وما يُفرض خارجه.
يواجه التعليم الفلسطيني ضغوطاً مركبة تتفاعل فيها الاحتلالات المباشرة، الأزمات الاقتصادية، والانقسامات السياسية، لتصبح المدرسة أكثر من مجرد فضاء للتعلم؛ إنها مساحة للمقاومة الهادئة، ومختبر لصقل الهوية، وبؤرة لصناعة المعنى في قلب الفوضى. في القدس، تتعرض المدارس لعنف يومي: إطلاق النار والغاز والقنابل الصوتية، منع البناء والتوسع، وفرض منهاج يسعى لتطويع وعي الطلاب بعيداً عن هويتهم الوطنية. أكثر من 2200 قرار حبس منزلي بين 2018–2022 يوضح مدى سياسة إخضاع التعليم للسيطرة والسياسات الاستعمارية. يصبح كل فصل ميداناً لإعادة تشكيل الذات، وممارسة يومية للوعي، وتحويل كل درس إلى فعل وجودي صامد.
تواجه الضفة الغربية هجمات مباشرة وغير مباشرة على الطلاب والمعلمين: استشهد 482 طالباً و5 معلمين، وأصيب 1052 طالباً و25 معلماً، بينما اعتُقل 846 طالباً و228 من الكادر التعليمي والإداري. اقتحمت القوات 8 جامعات وكليات، وتعرضت مدارس مثل عميرة الأساسية والعقبة الأساسية للتدمير. الحواجز العسكرية وجدار الفصل يقطعان مسارات الحركة اليومية، والهجمات الاستيطانية تشمل حرق المنازل وسرقة المحاصيل. ومع ذلك، يواصل المعلمون إشعال فضاءات التعلم، وصقل الوعي، وتحويل القيود إلى فرص للتفكير النقدي والانعتاق المعرفية، لتبقى المدرسة مختبراً للمعنى وسط بيئة تتسم بالتشظي والاستهداف المستمر.
شهد قطاع غزة انهياراً شبه كامل للمنظومة التعليمية بين 7 أكتوبر 2023 و4 نوفمبر 2024. نحو 780 ألف طالب حُرموا من التعليم، وتضررت حوالي 95% من المدارس والجامعات، بينما استشهد أكثر من 20 ألف طالب وأصيب 33 ألف آخرون. استشهد 1,033 معلماً وإدارياً وأصيب 4,732، فيما تحولت 133 مدرسة إلى مراكز إيواء للنازحين. أدى ذلك إلى تآكل الزمن التعليمي من 5 أيام أسبوعياً إلى 3 أيام، وفقدان الاستقرار النفسي والاجتماعي لمئات الآلاف من الطلاب، بينما يحاول المعلمون والطلاب إعادة صناعة المعنى وسط الخراب، وتحويل الألم إلى معرفة وصمود يومي.
يشكل التمويل المشروط والتبعية الاقتصادية ضغطاً مركزياً على التعليم الفلسطيني. تعتمد المنظومة على أموال المانحين، غالباً بشروط سياسية أكثر منها تعليمية، مما يقيد استقلالية القرار التربوي ويبعد النظام عن احتياجات الهوية الوطنية. تتداخل هذه القيود مع الضغوط الاقتصادية الناتجة عن الاحتلال، التي تمنع الاستثمار المحلي في التعليم المستدام. تصبح المدارس مرتبطاً مباشرة بالموارد الخارجية، ويتعرض المعلم والطالب للحرمان أو التقييد حسب شروط التمويل، في حين يُفقد النظام قدرة التخطيط الاستراتيجي المستقل.
في ظل الانقسام السياسي والقيود الاقتصادية والاجتماعية، يصبح التعليم الفلسطيني رحلة بحث مستمرة عن المعنى والهوية، ومساحة لصناعة المعنى الفردي والجماعي، حيث يتحول كل درس إلى فرصة لإعادة اكتشاف الحرية، وبناء الوعي، وصقل القدرة على الصمود وسط بيئة تتآكل فيها الموارد والفرص. التعليم هنا ليس مجرد نقل معرفة، بل صناعة للوجود وإعادة تأكيد للهوية، وتحويل كل تحدٍّ إلى فعل وجودي يرسخ الوعي ويزرع الأمل.
الرؤية الاستشرافية والمستقبلية: نحو منظومة تعليم فلسطينية قائمة على الجودة والمعنى
يجب للنظام التعليمي الفلسطيني أن يتحرر من تكرار الخطط العلاجية المؤقتة التي تستنزف القدرة المؤسسية وتضعف الجودة، ليصبح التعليم رحلة بنائية مستمرة لصقل الهوية وبناء صمود معرفي مستدام. التعليم هنا ليس مجرد نقل للمعلومة، بل ممارسة وجودية لصناعة المعنى، وصقل القدرة على التفكير النقدي، ومواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
لتنفيذ هذه الرؤية، يمكن اعتماد محاور واستراتيجيات رئيسة:
الاستقلالية المؤسسية والتحرر من التبعية
إعادة بناء الموارد الوطنية من خلال صناديق دعم مجتمعية وشراكات محلية، لتقليل الاعتماد على التمويل الخارجي المشروط.
وضع خطط تعليمية طويلة المدى قائمة على أولويات وطنية واضحة، تشمل الهوية، الجودة، والبحث عن المعنى.
تمكين المعلم من اتخاذ القرارات التربوية داخل الصف، وضمان حرية تصميم الأنشطة التعليمية والبرامج بما يعزز استقلالية الطالب في البحث عن المعرفة.
استثمار التعاون الإقليمي والعالمي بشكل تجريدي ومعرفي لدعم الابتكار دون التأثير على الهوية الوطنية.
تطوير مشاريع تعليمية تعتمد على الموارد المحلية والبحث الميداني وحل المشكلات الواقعية، لتصبح المنظومة أقل اعتماداً على الشروط الخارجية.
تعليم قائم على المعنى والجودة
تعزيز المناهج الوطنية وتحصينها، مع تعميق حضور التراث الفلسطيني وتطوير المهارات العصرية، بما يوازن بين القيم الأخلاقية والتفكير النقدي والتجريبي.
تحويل كل تجربة تعليمية إلى رحلة وجودية لصقل الوعي وبناء الشخصية، وتحويل التحديات اليومية إلى فرص تعليمية.
التركيز على إدارة زمن التعليم بشكل فعال، وضمان استمرار التعلم حتى في ظل الأزمات والصراعات.
تمكين المعلم ورفاهه بكل الأبعاد
البعد المالي: رواتب مستقرة وعادلة تحمي المعلم من تآكل الدخل بسبب التبعية الاقتصادية أو الأزمات.
البعد النفسي والاجتماعي: شبكات دعم نفسي، مساحات للتفاعل المجتمعي، وبرامج رعاية اجتماعية للتعامل مع ضغوط النزاعات وفقدان الطلاب والمباني التعليمية.
البعد الوظيفي والاعتباري: تعزيز مكانة المعلم، التقدير المهني، والاعتراف بدوره القيادي في الصف والمجتمع.
تمكين المبادرة والابتكار: حرية اتخاذ القرارات التربوية وتصميم الأنشطة التعليمية وفق احتياجات الطلاب، بعيداً عن القيود الخارجية أو الخطط العلاجية المؤقتة.
الشمولية والاستدامة: تضمين رفاه المعلم كجزء أساسي من السياسات التعليمية الوطنية، وخطط التمويل، واستراتيجيات إدارة الأزمات.
إدارة مرنة للأزمات
اعتماد أنظمة تعليمية مرنة مثل التعليم المدمج بين الواقعي والافتراضي، وضمان استمرارية زمن التعليم وجودته حتى في ظروف الطوارئ.
تطوير آليات للتعلم خارج المدرسة التقليدية، مع الحفاظ على المعنى والهوية والجودة التعليمية.
شبكات تعاون وبناء القدرات
إنشاء شراكات محلية وإقليمية وعالمية لتبادل المعرفة، ودعم البحث والابتكار، مع الحفاظ على الهوية الوطنية والاستقلالية.
استثمار الخبرات العالمية بشكل تجريدي ومرن لتطوير قدرات المعلم والطالب، دون التأثير على الجوهر الثقافي والتربوي.
ترسيخ المعنى والتحول الرقمي الذكي
التكامل بين الرقمي والواقعي: استخدام التكنولوجيا لدعم المشاريع الواقعية والتجارب الميدانية وحل المشكلات الحقيقية، لا كبديل عن التفاعل الإنساني المباشر.
المعنى أولاً: تصميم محتوى رقمي يدعم البحث النقدي والتفكير العميق، بحيث يظل الطالب فاعلاً في صناعة المعرفة والمعنى.
تعزيز الهوية الوطنية والثقافة المحلية: دمج التراث الفلسطيني داخل الموارد الرقمية مع المعرفة العالمية لتعميق الانتماء والوعي.
تمكين المعلم رقمياً: تطوير مهارات المعلم في استخدام التكنولوجيا كأداة للإرشاد، التحفيز، وإدارة بيئة التعلم بذكاء، مع الحفاظ على دوره كحارس للمعنى والوعي.
التعلم المخصص والشخصي: استخدام الأدوات الرقمية لتكييف الأنشطة التعليمية وفق قدرات الطلاب واهتماماتهم، لتعزيز المعنى الشخصي للمعرفة ومنع التجريد الهش.
المراقبة الأخلاقية والجودة الرقمية: التأكد من أن التكنولوجيا تعزز الجودة والتفكير النقدي ولا تفرغ العملية التعليمية من المعنى.
التحول إلى نظام مفتوح وعملياتي متجدد
تصميم النظام بحيث يكون ديناميكياً، متجدداً في عملياته، ومرناً في التكيف مع المتغيرات، مع صرامة واضحة في الجودة والمعايير.
التجدد المستمر في العمليات: إعادة تقييم وتطوير البرامج والأنشطة بما يدعم التطوير الذاتي والجماعي دون فقدان المعنى.
الشمولية والارتباط بين العناصر: المعلم، الطالب، الموارد، والإدارة يعملون كشبكة متصلة تغذي التطوير المستمر.
تمكين المبادرة والاستقلالية: الطلاب والمعلمون شركاء فاعلون قادرون على الابتكار واتخاذ قرارات تعزز الجودة والمعنى.
التكامل بين الرقمي والواقعي: دمج التقنيات لتعميق التعلم دون الهشاشة الرقمية أو فقدان المعنى.
بهذه الرؤية، يصبح التعليم الفلسطيني فينيقاً متجدّداً، منظومة نابضة بالهوية والمعنى، تغذي الصمود، وتحوّل التحديات إلى فرص، وتفتح أبواب الإبداع والمنافسة على المستوى العالمي، لتثبت أن النهوض ممكن رغم الرماد والهشاشة المؤقتة.
ختاماً، يصبح التعليم الفلسطيني فضاءً ينبض بالوجود والمعنى، ومختبراً للصمود والإبداع في وجه كل غياب وأزمة. هنا، لا تُقاس القيمة بعدد الدروس أو الساعات، بل بقدرة كل تجربة تعليمية على إشعال فضول العقل، وتوسيع حدود الوعي، وإعادة تشكيل الانتماء والهوية.
المعلم والطالب معاً يتحركان في شبكة متشابكة من مسؤولية وحرية، ابتكار ووعي، صرامة ومرونة، حيث تتحول كل أداة، وكل منصة رقمية، وكل مشروع ميداني، إلى فرصة لصياغة المعنى، واستدعاء الهوية، وصناعة مستقبل متجدد ومبتكر.
هكذا يصبح التعليم الفلسطيني رحلة متواصلة للمعرفة العميقة، تجربة تصقل الفكرة والوجدان، ومساراً مفتوحاً يربط بين التراث والحاضر، بين الفرد والمجتمع، بين التحدي والابتكار، رحلة لا تنتهي عند جدران الصف، بل تمتد إلى كل لحظة في حياة الإنسان الفلسطيني، وتؤسس لصيرورة حضارية حية، تتحدى القسوة، وتزرع معنى لكل غد ممكن.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .