1:19 صباحًا / 13 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

قصيدة أخي – ميخائيل نعيمه : جفاء الإنسان وصرخة الإنسانية ! بقلم : بلقيس عثامنه

قصيدة أخي – ميخائيل نعيمه : جفاء الإنسان وصرخة الإنسانية!

قصيدة أخي – ميخائيل نعيمه: جفاء الإنسان وصرخة الإنسانية! بقلم : بلقيس عثامنه


البعد الإنساني خير ما جاد به الأدب المهجري في رسالة ضمنية مفادها أن الأدب عالمي النزعة، والإنسانية رابط مشترك بيننا جميعا، فالإنسان أخ لأخيه الإنسان، الروابط قوية، والتفرقة صناعة الإنسان!


مفارقة مؤلمة، ومغزى فلسفي بعيد المأل؛ ليتأمل الإنسان الحقيقة، ويزيل غشاوة التفرقة توثيقًا للأخوة الإنسانية، وإضفاءً لروح المحبة.


إن الأخوة أعمق المعاني التي يعيشها الإنسان، فهذه الرابطة تحمل سر الوجود ومآل الإخوة، فالإنسانية مرتبطة ببعضها، والحقيقة تكمن في نبذ التفرقة، وإحياء المعنى الأزلي للأخوة الذي يربطنا ببدء الخلق، فكل بني البشر أبناء آدم!
تحمل القصيدة أبعادًا عديدة، بلغة شعرية مثقلة بالألم والحزن، وبالتفكر في كل الدمار الذي يلحقه الإنسان بأخيه، بعدة مستويات، فالاستعمار والهجرة والفقد والموت، كلها نتاجات أفعال الإنسان مع أخيه، ما ينقلنا للتساؤل، لماذا تحمل الروح البشرية كل هذا الكره؟ ولماذا يلطخ الوجود بالموت؟ وما الفائدة التي يجنيها بنو البشر من القوة التي تقتل الإنسانية؟


في زمنٍ تتكرر فيه الحروب وتستباح آفاق الإنسانية، تعود قصيدة «أخي» لميخائيل نعيمة كصرخة خالدة ضد القسوة البشرية، لتذكرنا بأن الإنسان – مهما اختلف – يظل أخًا للإنسان، يشاركه أكثر مما يفارقه!


تمثل قصيدة أخي لميخائيل نعيمة صوتًا إنسانيًا ذا نزعة عالمية، ينبذ الحرب ويفضح المأساة التي يعيشها الإنسان المعاصر تحت وطأة الصراع والدمار، إذ يمثل العنوان بعدًا أخويًا وتربة خصبة لتوقعات القارئ حول المضمون، الذي قد يحمل البعد الوعظي أو التكافلي إلا أنه يجزم بأنه يحمل حسًا إنسانيًا دافقًا.


أخي! إنْ ضَجَّ بعدَ الحربِ غَرْبِيٌّ بأعمالِهْ
وقَدَّسَ ذِكْرَ مَنْ ماتوا وعَظَّمَ بَطْشَ أبطالِهْ
فلا تهزجْ لمن سادوا ولا تشمتْ بِمَنْ دَانَا
بل اركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ خاشِعٍ دامٍ
لنبكي حَظَّ موتانا


يوظف الشاعر حقلاً دلاليًا متماسكًا يرتبط بالحرب والموت، مثل توظيف: ضجّ، الحرب، ماتوا، بطش، سادوا، تشمت، اركع، صامتًا، خاشع، لنبكي، وهي مفردات تشيع في النص جوًا من الألم والحسرة، وتكثف الوجع الإنساني الذي يعيشه الشاعر.


تبدأ القصيدة بالنداء “أخي” فالأخ عون أخيه وناصحه الأمين، توظيف النداء وحذف أداته يشعر القارئ بالقرب الروحي، ويقدم المقطع ثنائية على شكل صورة تقارن بين المنتصر والمهزوم، مع الإقرار بأن المنتصر غربي، وبالتالي فالمهزوم شرقي، وتأتي المفارقة في ضجيج الغربي بأعماله بعد انتصاره، أي أنه انتصار شكلي يمثل خسارة فادحة للمهزوم وتزييف، وهذا الغربي حتمًا سيقدس ذكر من ماتوا ويعظم بطش أبطاله، وتقديس أمواته، لأن هذا ما عهده الشاعر عن الغربي حين يحظى بانتصار ولو شكلي، وسينشر الحزن على أمواته في العالم.


في المقابل، صورة المهزوم، الذي سيركع بصمت، ويجسد قسوة الألم وحظوة الخضوع على روحه؛ لأن العالم خاضع للقوة، وبالتالي المنتصر زيفًا وظلمًا سيضج بانتصاراته، في مقابل المهزوم سيركع صامتًا، حتى في الموت اختلاف وتنوع، إذ يقدس موتاهم، أما موتى الشاعر وإخوته يُبكى على حظهم وعلى ألمهم، في إشارة إلى الذل والضعف الذي يعيشه الشاعر وإخوته. فتتجلى المفارقة الكبرى في القصيدة بين حضارة تضج بتمجيد القوة، وأخرى تركع صامتة أمام خسارتها، ليدين الشاعر الحضارة الحديثة التي فقدت إنسانيتها في سبيل القوة.


أخي! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جُنديٌّ لأوطانِهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم
سوى أشْبَاح مَوْتَانا


يفتتح الشاعر المقطع الثاني بالنداء ذاته “أخي”، مؤكّدًا وحدة الخطاب الإنساني في القصيدة، ثم يوظّف حقلًا دلاليًا مثقلًا بالحزن والفقد، يضمّ مفردات مثل: الحرب، الجندي، المنهوك، الجوع، الأشباح، الموتى، وهي كلمات تُشيع جوًّا من الأسى والعجز الإنساني العميق.


افتتح المقطع بالنداء “أخي” الذي مثل لازمة تبدأ بها مقاطع القصيدة جميعها، وينبي الشاعر المقطع كما سابقه على الثنائية والمفارقة بين جندي يعود إلى وطنه، ومهاجر يعود إلى وطنه، كلاهما منهك الجسم وهذا الاتفاق في الحالة إشارة إلى المعاناة التي يعيشها الإنسان في اغترابه عن وطنه وأهله، فالجندي والمهاجر، منهكان من حرب البقاء التي يخوضها كل على طريقته.


تتجلى المفارقة في أن الجندي، رغم ما قاساه من ويلات الحرب، يجد من يحتضنه عند عودته، بينما المهاجر، العائد بعد اغتراب، لا يجد إلا فراغ الوطن الذي أفرغَه الجوع من أهله، هنا يصوغ الشاعر مأساة مزدوجة: مأساة الجسد المنهك بالحرب، ومأساة الروح المنهكة بالغربة، إذ يحمل هذا المقطع دلالة رمزية إلى القوة وسلطتها، في مقابل الضعف والذل، فالجوع لا يأتي من قوة وإنما من ضعف ومهانة، والمهاجر لا يترك وطنه إلا للحاجة وطلب الرزق، في مقابل الجندي الذي يرمز للقوة.


يبني الشاعر المقطع على شعور الضعف والمهانة في مقابل القوة والسيطرة، وفي ألم فراق الوطن لمن تركه قسرًا بحثًا عن لقمة عيش ليعود ويجد أنه ضحية، في كلتا الحالتين، فإن بقي سيصبح شبحًا هزيل الجسد جائعًا في إشارة إلى الضعف والهوان، وإن هاجر سيصيبه الحنين بألم يقتل روحه، في إشارة إلى ضعف الإنسان أمام القوة وسيطرتها عليه.


أخي! إنْ عادَ يحرث أرضَهُ الفَلاّحُ أو يزرَعْ
ويبني بعدَ طُولِ الهَجْرِ كُوخَاً هَدَّهُ المِدْفَعْ
فقد جَفَّتْ سَوَاقِينا وَهَدَّ الذّلُّ مَأْوَانا
ولم يتركْ لنا الأعداءُ غَرْسَاً في أراضِينا
سوى أجْيَاف مَوْتَانا


يستهل الشاعر هذا المقطع بعلامات تحمل دلالة الحياة والعمل: عاد، يحرث، يزرع، يبني، طول هجر، هده المدفع، خفت سواقينا، هد الذل، لم يترك، الأعداء، أجياف، موتانا، وكلها ألفاظ تحمل دلالات الأمل مقابل الموت والحزن، ليؤسس الشاعر، في قصيدته، لثنائية بين بناء الأوطان وخرابها، وبين الأمل والموت.


يقدم الشاعر صورة الحياة والبناء مقابل الموت والدمار، ولكن الصورة التي تنقلها الأبيات، حزينة كئيبة، فلا شيء يعود كسابق عهده، فالبناء والزراعة ما هي إلا محاولات للبقاء بعد حالة الاستعمار والقمع الذي سيطرت على الأوطان، وتوظيف “جفت سواقينا” يحمل دلالة انقطاع الحياة، وذبول الروح والأرض، وانتهاء زمن الخير، فنتيجة الأحداث التي مرت على الوطن فقد الشاعر الأمل والطمأنينة، وما محاولات الحياة والزراعة والحراثة والبناء إلا رسالة صمود، رغم الانهيار الداخلي “فلم يترك لنا الأعداء غرسًا في أراضينا/ سوى أجياف موتانا” فلم يبقى إلا بقايا الحياة في أجساد ماتت أرواحها، يمكن القول: إن الشاعر يقدم صورة حزينة مؤلمة لما يفعله الاستعمار وما تخلفه الحرب، ويقدم نتاجات فرض القوة والهيمنة على الأرض وأبنائها الذين يفقدون جزءًا من ذواتهم، فما الحياة في بقاء الروح، وإنما في العزة والكرامة.


المقطع الثالث، من قصيدة أخي، يجسد ذروة المأساة الإنسانية التي يصورها نعيمة، فالحرب لم تترك للأرض ماءً ولا للإنسان كرامة، وكل محاولة للبناء تبدو كأنها صرخة ضد الخراب أكثر من كونها وعدًا بالحياة، من هنا تتحول القصيدة إلى تأمل فلسفي في معنى البقاء بعد الفقد، وفي جدوى الحياة إذا غابت الحرية والعزة.


أخي! قد تـَمَّ ما لو لم نَشَأهُ نَحْنُ مَا تَمَّا
وقد عَمَّ البلاءُ ولو أَرَدْنَا نَحْنُ مَا عَمَّا
فلا تندبْ فأُذْن الغير ِ لا تُصْغِي لِشَكْوَانَا
بل اتبعني لنحفر خندقاً بالرفْشِ والمِعْوَل
نواري فيه مَوْتَانَا


يتخذ الشاعر في هذا المقطع نبرة مغايرة عما سبق؛ إذ تتحول النغمة من الرثاء إلى اللوم، ومن البكاء إلى الدعوة للفعل، وتظهر هذه النبرة من خلال توظيف أفعالٍ مثل: لو لم نشأ، لا تندب، اتبعني، نحفر، نواري، وكلها تؤكد يقظة الوعي ورفض السلبية.


المقطع يمثل وعيًا خاصًا يعيشه الشاعر، إذ أقر بأن الإرادة بيد الشعوب وبأنها قادرة على تغيير واقعها وتحسين أوضاعها لو أرادت ذلك، وندب الحظ والشكوى ليست الحل، فكل إنسان، أو لنقل قوم منشغل بنفسه وبمشكلاته، فلا أحد يحمل على عاتقه تغيير واقع غيره، وبالتالي يطلب من أبناء شبعه أن يتبعوه لحفر خندق، واستخدام الفعل اتبعني يحمل دلالة القيادة، إذ يرى الشاعر في نفسه نفاد البصيرة وقوة الرؤيا لتسيير الأمور.


هدفه من بناء الخندق “نواري فيه موتانا” والدال موتانا تحتمل مدلولات متعددة، فهي ليست ضحايا الحرب وحسب، بل هي الخيبات والجراح، وقصده من مواراتها في هذا المقطع إعلان نهايتها ليبدأ فصل وعي جديد.


أخي! مَنْ نحنُ؟ لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ
إذا نِمْنَا، إذا قُمْنَا رِدَانَا الخِزْيُ والعَارُ
لقد خَمَّتْ بنا الدنيا كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا
فهات الرّفْشَ وأتبعني لنحفر خندقاً آخَر
نُوَارِي فيه أَحَيَانَا


تظهر التساؤلات العميقة لدى الشاعر، فبعد نبرة الحزن واليأس، ونبرة الرثاء، والدعوة للعمل، يصل ختامًا إلى حالة من التصادم مع التساؤلات الفلسفية العميقة التي أزالت غشاوة الأمل عن عينيه وأعادته إلى الواقع من جديد، بعد أن دارى الآلام والخيبات، وجد أن الوطن لم يعد وطنًا، وأن الأهل لم يعودوا أهلًا، وأن الجار ما عاد جارًا، وهذا دلالة على تحول الجميع واختلاف كل موازين المعادلة، فبعد الحرب يتغير جوهر الإنسان، ويبحث عن ذاته وأحقيتها وحدها، يشعر بفقدان الأمان إن شارك غيره.


فالخزي والعار لم يتركا الإنسان بعد ما مر به؛ لأن القلب لا ينسى حالة الألم، وهنا يظهر الشاعر حقيقة عميقة، وهي أن القتل لا يكون للميت فقط “لقت خمت بنا الدنيا كما خمّت بموتانا” فالروح ذبلت، وقطع مدادها وبالتالي فكل من بقي ميت خلفته الحرب جسدًا يسير دون روحه “فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقًا آخر/ نواري فيه أحيانا” فبعد موراة الخيبات والآلام للثرى لم يعد هناك في الأحياء من شيء، فالأمل لن يعود ليفرش بساط سلامه على هذه القلوب، فيكون الإنسان وحيدًا فقد شعلته، لذا مواراته الثرى لا تشكل فارقًا لعدم امتلاكه لدافع.


تشكل القصيدة لوحة من مقطوعات خمس، تبدأ وتنتهي كلها بلازمة بداية ونهاية، إلا المقطع الأخير الذي يخالف اللوازم الختامية السابقة إذ تنتهي القصيدة بـ “نواري فيه أحيانا” في دلالة على أن الحياة لا تعني بقاء القلب نابضًا دون روح تحييه وتحافظ على توقد الأمل بين جوانحه، وهنا يظهر الشاعر أن الإنسان من دون أمل وسعي ومثابرة، لا جدوى من وجوده، وأن بناء الأوطان وتحريرها جهد يقع على عاتق أبنائها وحسب، والمفارقة هنا أنه طلب أن يواري الأحياء، ولم يقل بمواراة نفسه لأنه يمثل شعلة الضياء وحامل رسالة البناء، فمن يحمل الرسالة حي يرزق لا حي دون أمل.


وفي ختام هذه الرحلة مع قصيدة أخي، يتركنا الشاعر أمام لوحات إنسانية بديعة، تتراوح بين الألم واليأس والوعي، بين الرثاء والعمل والفلسفة، فقد أظهر لنا أن الحرب لم تقتل الجسد فحسب، بل ذبُلَت معها الأرواح وانهارت القيم، وأن الفقد والخراب يلاحقان الأحياء كما يلاحق الموتى، ومع ذلك، فإن الدعوة إلى الفعل والعمل، وحفر الخنادق الرمزية، ومواراة الآلام والخيبات، تؤكد أن الأمل مسؤولية يتحملها الإنسان لنفسه ولأمته، فالقصيدة، بما حملته من رموز وصور مأساوية، تذكر بأن الحياة بلا إرادة، بلا كرامة، وبلا سعي لإعادة البناء، تصبح مجرد بقاء جسدي لا روح فيه، وأن الإنسان الحقيقي هو الذي يحيي الأمل ويزرع الحياة حيث خمدت النيران، حاملًا رسالة البناء وسط الخراب.


يمكننا القول ما زالت قصيدة «أخي» تضع الإنسان أمام مرآة ذاته الشاحبة؛ فإما أن يرى فيها وجهًا أخويًا يفيض بالرحمة، أو وجهًا غريبًا غلفه الغرور، وبينها، يختار كل منا مذهب إنسانيته ودرب روحه الذي يرتضي لنفسه!

شاهد أيضاً

أسعار الذهب اليوم الخميس

أسعار الذهب اليوم الخميس

شفا – جاءت أسعار الذهب اليوم الخميس 13 نوفمبر كالتالي :عيار 22 87.800عيار 21 83.800