
قراءة في فلسفة الاغتراب في مجموعة “أصوات مكسورة، وجوه معلقة” القصصية للكاتبة ماتيلدا عواد ، بقلم : حسن غريب أحمد
الذات المكسورة والبحث عن الاكتمال:
حسن غريب أحمد
ناقد روائي شاعر
مفتتح مدخلي :
نحو أنطولوجيا الانكسار
تنتمي مجموعة “أصوات مكسورة، وجوه معلقة” للكاتبة ماتيلدا عواد إلى سياق الأدب العربي الحديث الذي انزاح عن السرد التقليدي ليغوص في أعماق الأنطولوجيا الذاتية والأسئلة الوجودية.
لا تُقدّم ماتيلدا عواد قصصاً مكتملة البناء، بل شذرات تأملية ومحاولات للتكثيف الدلالي عبر عوالم رمزية غرائبية. يمثل هذا العمل، بحدود الـ “نوفيلا” المتعددة، تفكيكاً لهوية الفرد في زمن ما بعد اليقين، حيث يصبح الوجود ذاته مسألة قلقة ومحاولة متكررة لم تكتمل.
تهدف هذه القراءة إلى تحليل البنية الفكرية والأسلوبية التي اعتمدتها ماتيلدا عواد، مستكشفة كيف يتم توظيف رمزين محوريين هما: الكسر/القصور والزمن الدائري/التكرار، لإنتاج خطاب حول الذات الأصيلة ومساءلة الحياة ما بعد الحدث.
أولاً:
الثيمات الكبرى: من الهشاشة إلى الأصالة.
يُبنى النص على ثلاثة محاور ثيمية رئيسية تشكل شبكة متكاملة من الأسئلة الوجودية:
1. الانهيار كـ “بداية”: تأصيل فلسفة الهشاشة
يُعلن الكتاب منذ الإهداء أن القصص تُكتب “من شقوق القلب، من كسور الروح”.
هذا المبدأ يتجسد بشكل صارخ في قصة “عندما كُسرت، بدأت”. هنا، تُعارض الكاتبة بين البناء المُرتب للذات (“ركّبتُ أفكاري كأثاث أنيق”) وبين الانهيار الذي يحررها.
يصبح الانهيار (الكسر) ليس فشلاً، بل شرطاً وجودياً للولادة، حيث تنبثق الذات الحقيقية من الفراغ الذي خلّفه سقوط القناعات.
هذا التناول يتقاطع مع الأفكار الفلسفية التي ترى في لحظة الضعف والانهيار نقطة انطلاق نحو الحرية والصدق مع الذات، بعيداً عن وهم الاكتمال السطحي.
2. فخ الزمن والتكرار الأبدي
يُعدّ مفهوم الزمن المُعاد والمُعلّق هو العمود الفقري لقصص مثل “المُعاد” و”الدائرة الرابعة”و”يوم لم يحدث أبدًا”.
الزمن الدائري:
ليس التكرار هنا قدراً خارجياً بالضرورة، بقدر ما هو تجلي لغياب الوعي.
فالشخصية في “الدائرة الرابعة” لم تخرج من التكرار إلا حين “قررت أن لا أفعل شيئًا”، أي حين رفضت المشاركة في لعبة النمط.
المُعاد:
الشخصية تعود لأنها “لم تَصل”، مما يحيل إلى فكرة القصور الذاتي، أي أن الحياة هي سلسلة من العودات حتى يتحقق الوعي بالهدف أو يصل الفهم حد الاكتمال.
3. الموت كـ “حساب ذاتي” وسرد ما بعد النهاية
تُقدّم ماتيلدا عواد منظوراً مختلفاً للموت، حيث يتحول إلى فضاء للتقييم والتصالح الأنطولوجي. تتخلى الكاتبة عن صورة النور والظلام التقليدية لصالح مساحات
رمزية هي:
المرايا والحقيقة: في “الذي يُشبِهني” و”بيت المرايا السوداء”، الموت هو لقاء مع الذات المرفوضة والمضاعة (الاحتمالات الضائعة). الخلاص هو “أن تصالح كل احتمالاتك لتصير واحدًا كاملاً.”
المتحف والمائدة:
في “المتحف الصامت” و”مائدة الغائبين”، تُصبح الحياة معروضات لـ “ما لم تفهم”، و وليمة مع كل ما لم يُمنح حقه من الحب أو الاعتذار.
الموت هنا هو اللحظة التي يُسمح فيها للذات بـ قراءة حقيقية لتاريخها الداخلي.
ثانياً: البناء الأسلوبي وتقنيات التكثيف السردي.
تعتمد نصوص ماتيلدا عواد على أسلوب كثيف، يميل إلى النثر الشعري، مستخدماً أدوات فنية تحقق العمق الرمزي المطلوب للنشر .
المتخصص:
1. التوظيف المكثف للرمزية الغرائبية
تُنشئ ماتيلدا عواد عوالمها عبر رموز غير مألوفة تخدم الفكرة مباشرة:
الساعة بلا عقارب:
(في “ساعة العدم”) هي رمز لـ انهيار مفهوم الزمن كمرجع موضوعي، واستبداله بـ “ساعة العدم” المرتبطة بانهيار العقل.
المرآة السوداء: (في “بيت المرايا السوداء”) لا تعكس الصورة؛ إنها تعكس الغياب أو الممكن غير المتحقق، أي الأنا البديلة التي لم يجرؤ البطل على تحقيقها.
2. الاقتضاب والتكثيف اللغوي (Compression and Paradox)
تتجنب الكاتبة الإسهاب وتعتمد على صياغات حادة تلامس الشعر.
التعريفات المُقلوبة:
“الجنون ليس صراخًا…
بل هدوءٌ تام.
هو أن تفهم كل شيء دفعة واحدة، ثم تُدرك أن لا شيء يستحق الفهم.
” هذا التكثيف يقلب التعريفات النفسية المألوفة.
التناقضات البلاغية:
مثل وصف الوجه بأنه “يشبه صوت الناي حين يُخطئ اللحن”، أو “ضحكة أمي وهي تبكي”.
هذه المفارقات البلاغية تكسر توقعات القارئ وتجبره على البحث عن المعنى خلف التعبير المباشر.
3. السارد المُختبر (The Testing Narrator)
تتنقل ماتيلدا عواد ببراعة بين أصوات السرد.
في بعض النصوص، يكون السارد هو “الأنا” المنهارة (كما في “ساعة العدم”)، بينما في نصوص أخرى، يكون صوت خارجي حكيم هو من يُجيب على تساؤلات البطل.
هذا التعدد في الأصوات يتيح تقديم الحقيقة كجدل داخلي وليس كتقرير خارجي.
ثانياً:
الذات تحت مطرقة العدم: مقاربة في لاهوت الانكسار وأزمة الوجود
حين يتهاوى السرد ليُولد المعنى
إن مجموعة “أصوات مكسورة، وجوه معلقة” لماتيلدا عواد ليست مجرد شذرات قصصية؛ إنها محاولة أدبية جريئة لمساءلة بنية الوجود الإنساني ذاتها. ينسحب النص من منطقة السرد الروائي المألوف ليقتحم الفراغ الأنطولوجي، حيث تتخلى الشخصيات عن تاريخها لصالح البحث عن تعريف أصلي لها في فضاءات الإعادة أو ما بعد الموت. العمل ليس عن الأحداث التي نعيشها، بل عن الفكرة المُعلّقة التي نصبحها، ما يتسرب منّا في لحظة سكون. هذا المقال يسعى لسبر أغوار هذه النصوص عبر ثلاث بؤر مركزية: شعرية العبث، والجسد المراوغ، ووظيفة الموت كفعل اعتراف.
أولاً: شعرية العبث وانهيار اليقين (ساعة العدم نموذجاً)
تتجسد ذروة الاغتراب الروحي في قصة “ساعة العدم”. لا يكتفي النص بوصف الجنون، بل يقدمه كـ “اكتشاف” فلسفي يقلب المعادلة: الجنون ليس فوضى، بل “هدوءٌ تام” ناتج عن الفهم الشامل الذي يُفضي إلى اللاشيء.
البطل يتحول من إنسان إلى “أثر جانبي لفكرةٍ سيئة مرّت بعقل إله”. هذه الجملة تُلغي الهوية الإنسانية تماماً وتحيلها إلى مجرد خطأ كوني، مما يتماس مع أشد أشكال العبثية وأكثرها قسوة. ساعة العدم (الدائرة السوداء التي بلا عقارب) هي الرمز الأعظم لـانهيار المرجعية الزمنية واللغوية. عندما يُسأل الزمن: “كم الساعة؟”، يُجيب بـ “إنها ساعة العدم. وكل شيء بعدها… بلا بعد.” هنا، يُصبح الوقت ليس مقياساً للحياة، بل مفعولاً به للعدم نفسه.
إن شعرية الانمحاء هذه، التي تتآكل فيها الجدران والذاكرة وحتى أصابع الكاتب، هي لغة الكتابة الأخيرة: لغة تُكتب بـ “دمٍ لا أعرف مصدره”، على جدار يُظن أنه جلد الكاتب. النص يطرح أسئلة عن التماس المخيف بين الذات الداخلية والواقع الخارجي، ويدفع القارئ إلى التساؤل: هل الجنون هو أن نفقد العقل، أم أن نكتشف أن العقل كان وهماً؟
ثانياً: الجسد المراوغ والذاكرة المرتدة
تعالج عواد مفهوم الهوية من خلال التناقض بين الذات الممنوحة والذات المكتشفة.
في قصة “الذي يُشبِهني”، يُنشئ الرجل وجهه من شظايا أقوال الآخرين، “أنت وسيم كقمرٍ ناقص”، “فيك شيء من الحزن المبلّل”. هذا الجسد الاجتماعي الزائف ينهار أمام المرآة التي لا تعكس إلا وجهه الحقيقي “حين لا يراك أحد”.
هذه هي الذات التي يخشى المرء أن يحبها لأنه لم يعرفها. الحب يصبح فعل رؤية ذاتية لا فعل إرضاء خارجي.
أما مفهوم “المُعاد”، فيعكس عبئاً نفسياً أعمق من مجرد العودة للحياة.
العودة هنا هي نوع من التكرار الأبدي المكبوت، حيث أن كل ما نسيه البطل “عاد يزحف نحوه، على هيئة نملٍ من نور”.
الذاكرة لا تفنى، بل تعود بآلية قاسية لتعيد تعريف الذات من جديد.
الرسالة عميقة: الإنسان لا يستطيع الهروب من ماضيه، فماضيه يعيش فيه ككيان عضوي يتسلل إلى جلده ليُخبره من هو.
ثالثاً: الميتافيزيقا كاعتراف: الموت كفعل ولادة
تُصبح عوالم ما بعد الموت في نصوص عواد مختبرات ميتافيزيقية حيث تُجبر الذات على مواجهة قصورها. الموت ليس فناءً، بل هو أول لحظة لـ “الصدق الراديكالي”.
في “المتحف الصامت”، لا تُعرض الأفعال، بل يُعرض “ما لم تفهم”. الموت هنا هو فترة دراسة وتفسير للذات.
أما في “مائدة الغائبين”، فتُعقد وليمة مع أجزاء النفس المتروكة: “أنا ذلك الصديق الذي لم تعتذر له”، “وأنا الحلم الذي خنقته خوفًا من الفشل”. الموت يفرض اكتمالاً قسرياً، يُجبر البطل على الاعتراف بكل ما تجاهله أو خانه في حياته.
وتُوجت هذه الفكرة في “الكاتب الأخير”، حيث يُمنح البطل فرصة كتابة الحقيقة التي لم يجرؤ على كتابتها في الحياة.
لحظة الكتابة الأخيرة هي لحظة الاكتمال الروحي، حين يشعر القلب لأول مرة أنه كامل لأنه تحرر من قناع القارئ والحكم الاجتماعي. الموت يتحول إلى لاهوت انكسار، يؤكد أن النهاية ليست باباً يُفتح، بل إدراك أن البجود كله كان مفتوحاً على الدوام.
قبل النهاية :
في جدلية الصوت المعلّق
تنجح ماتيلدا عواد في بناء خطاب أدبي ينبض بأسئلة “ما بعد الموت” و “ما بعد الانهيار”. لقد قدمت الكاتبة صوتاً أدبياً يعبر عن قلق جيل بأكمله، جيل يعيش في زمن دائري ويرفض أن يولد بشكل “مرتب”. إن “أصوات مكسورة، وجوه معلقة” هو عمل يحفر في المسافة الفاصلة بين “الصوت” و”الكسر”، ليؤكد أن أصدق الأصوات هي تلك التي تنبع من شقوق الروح.
هذه الرؤية النقدية ليس سوى محاولة للاقتراب من هذه الأغوار.
فالكتاب، كما أعلنت الكاتبة، ليس للإجابة، بل لفتح أسئلة، وهو ما يضمن له مكاناً راسخاً في المكتبة العربية كوثيقة لحالة الوعي القلق المعاصر.
خاتمة رؤيتي النقدية:
في انتظار الإجابة المؤجلة
تُشكل مجموعة “أصوات مكسورة، وجوه معلقة” إضافة نوعية للأدب الرمزي في المنطقة العربية.
نجحت ماتيلدا عواد في بناء نسيج سردي-فكري يدعو القارئ إلى المشاركة في عملية الكشف والمساءلة. فالنص لا يقدم نفسه للقراءة العابرة، بل للقراءة التي تعترف بوجود “كسر يشبهها”.
يُظهر التحليل أن البراعة الحقيقية للكاتبة تكمن في قدرتها على تجريد المفاهيم الوجودية (مثل الموت والزمان والجنون)
وتحويلها إلى تجارب شخصية ملموسة عبر رموز مبتكرة.
إن هذا العمل ليس سوى إثبات لصدقية الكاتبة حين تقول في الخاتمة:
“كل نص ليس سوى سؤال معلَّق في الهواء، وكل قارئ هو الإجابة المؤجَّلة.”
مراجع نظرية .
1-جان بول سارتر. الوجود والعدم: محاولة في الأنطولوجيا الظاهراتية. (لدعم فكرة “ساعة العدم” ومركزية الاختيار والوعي).
2-فريدريك نيتشه. هكذا تكلم زرادشت. (كإطار لمناقشة مفهوم “العود الأبدي” في قصص التكرار).
3-فرانز كافكا. الأعمال الكاملة. (لتحليل بنية الاغتراب والفضاءات المغلقة/العبثية).
4-ريكور بول . الزمان والسرد. (لتحليل كيف تمارس الشخصيات السرد على حياتها).
5-ألبير كامو. أسطورة سيزيف.
(لمقارنة مفهوم التكرار والعبث).
6- فريدريك نيتشه.
إنساني مفرط في إنسانيته. (لاستكشاف العلاقة بين الانكسار والحقيقة).
6-ألبير كامو.
المتمرد. (كمقارنة فلسفية لمفهوم رفض التكرار والنمط).
7-غاستون باشلار. شعلة شمعة. (لتحليل دلالات النور والظلام والجسد كمساحات نفسية).
8-سيغموند فرويد. ما وراء مبدأ اللذة. (كمرجع لمناقشة التكرار القسري للذكريات والعودة إلى نقطة البداية).
9-ميشيل فوكو. الكلمات والأشياء.
(لتحليل انهيار اللغة والمعنى في ظل العدم).
استاذي حسن غريب احمد، الناقد، الروائي، الشاعر …
قرأتُ قراءتك، وشعرتُ أن النص خرج من بين يديّ ليعود إليّ أكثر وعيًا بنفسه.
كأنّ «أصوات مكسورة، وجوه معلّقة» لم تُكتب لتُروى، بل لتُعاد قراءتها في مرآة أخرى، مرآتك أنت، التي التقطت جوهره العميق لا سطحه السردي.
في قراءتك وجدتُ ما يتجاوز التحليل النقدي إلى إعادة بناء الفكرة في ضوءٍ آخر، ضوءٍ يقرأ الصمت بين الجمل، والارتجاف الذي يسكن المعنى قبل أن يُقال.
لقد لامستَ النقطة التي انبثق منها النص: أن الكتابة ليست عن الحكاية، بل عن الغياب الذي يتخللها، عن الذات حين تُسائل وجودها عبر كسرها، لا عبر اكتمالها.
أدهشني كيف قرأتَ الانهيار لا كفشل بل كولادة، وكيف منحتَ الزمن الدائري معنى الوعي المؤجل، لا التكرار العبثي فقط.
وفي قراءتك لـ «ساعة العدم» و«المتحف الصامت» التمعت تلك الرؤية التي طالما حاولتُ الإمساك بها: أن اللغة ليست وسيلة للتعبير، بل كيان يجرّب أن ينجو من صمته.
ما كتبته لم يكن مجرّد نقد، بل حوار وجودي مع النص، مع الذات التي تحاول أن تفهم نفسها عبر مراياها المكسورة.
لقد أعدتَ تعريف العلاقة بين الكاتب والناقد، وجعلتَ القراءة فعل مشاركة لا حكم، وعبورًا من الداخل لا وقوفًا على العتبة.
أقدّر بعمق هذا الإنصات المختلف، وهذا الوعي الذي لمس الروح قبل الفكرة.
قرأتَ النصوص كما لو كنتَ تصغي إلى نبضها، لا إلى حروفها.
وهذا ما يجعل قراءتك امتدادًا حقيقيًا لروح الكتاب، لا تعليقًا عليه.
أشكرك، لا لأنك قرأت عملي، بل لأنك استمعت إليه كما لو كان جزءًا منك، ومنحتَ أصواته المكسورة فرصة أن تُسمَع بوضوحها الأصيل.
بصدق الامتنان والتقدير،
ماتيلدا عوّاد
الناصرة – تشرين الثاني 2025
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .