
قراءة في ديوان “هي القدس ، قاف القلوب ” للشاعر د. أحمد الريماوي بقلم : نصير أحمد الريماوي
من خلال تجوالي في بساتينه الشعرية
- أشعاره أنغام تفيض بالأغاني: للحريَّة، وللحياة، وللأمل، ولحتمية الانتصار، ولتمجيد الروح الوطنية، وتحدياً للاستسلام.
- وظَّفَ حرف “القاف” في شعره مجازا، لإظهار مدى تأثير قوة القدس مهوى القلوب.
الكاتب : نصير أحمد الريماوي
لقد أهداني الشاعر “د. أحمد الريماوي” مشكورا ديوانه السادس عشر مُزيَّناً بعنوان لافت، ومثير للإنتباه والقراءة ” هي القدس..قاف القلوب”.
هذا الديوان الذي نحن بصدده، والثمين بكنوزه، تعانق غلافه الخارجي لوحة فنية تجسِّد روح مدينة القدس و العمل الأدبي، رسمها الفنان”رزق المدهون” من غزة الأبية. وعلمت لاحقا، أنه استشهد قبل نصف سنة جرّاء القصف الهمجي الصهيوني على غزة هاشم خلال “طوفان الأقصى”، تاركا خلفه طفلا وزوجته، فصار الغلاف يحكي قصة لوحة حزينة، تعكس واقع الوطن الجريح رسمها شهيد قبل استشهاده في مشهد دام يعيشة شعبنا من أجل القدس وفلسطين، لكنها تحمل نظرات أمل فَرِحَة لشاعر الديوان.
لقد ظهرت بواكير تجربة “د. أحمد الريماوي” الشعرية والأدبية منذ نعومة أظفاره وهو تلميذ في المدرسة، وأثناء ملازمته ومجالسته لأجداده المتصوفين الذين كانوا ينشدون وهو يستمع، فتأثر بروحهم الشاعرية أيما تأثير. لقد كان لمَّاحا ولديه شاعرية مدفونة بحاجة إلى إبراز.
لقد كانت أول قصيدة له عمودية بعنوان” ثورة الجزائر”، وهو ما زال في الصف السادس الإبتدائي، كما رددها على مسامع والدته في المنزل أثناء إنهماكها في عملها على ماكينة الخياطة من نوع (سنجر) فشدّت انتباهها، وشجعته على الاستمرار في الكتابة، كما لاقت محاولاته الأولى أيضا اهتمام معلم اللغة العربية”عزت زاهدة” في مدرسة عقبة جبر الثانوية التابعة لوكالة الغوث بمدينة أريحا حيث كان يتعلم بعد اللجوء القسري.
بعد تشريد أسرته عن أرض الوطن فلسطين إلى المنفى، واصل لاحقا تعليمه العالي، فحصل على: ليسانس دراسات فلسفية واجتماعية، ودبلوم علوم إسلامية، وماجستير ودكتوراة فلسفة التاريخ. لقد لعبت ثقافته الدينية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية دورا كبيرا في صقل مواهبه، مضافا إليها، الواقع الفلسطيني المعاش المُثخن بالجراح منذ نكبة شعبنا الأولى.
لعب “الريماوي” دورا كبيرا في استثمار هذا التراث الشعري في ديوانه :الديني، والتاريخي، والفلسفي استثمارا إيجابيا، منطلقا من أن الشعر والأدب يعتبر رسالة: تثقيفية، وتربوية، وسياسية، وتعبوية، وإعلامية توعوية ضد الاحتلال.
لقد استجمع قواه، الذهنية، والجسدية، والفكرية، وعاد من جديد منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى الساحة الأدبية والثقافية بقوة فصارت تظهر كتاباته المتنوعة من: شعر، ونثر في الصحف العربية، والأمسيات الشعرية، والندوات، والمهرجانات، والصالونات الأدبية، في العديد من الدول العربية والإذاعات الناطقة بالعربية، وفي المنتديات، والملتقيات على شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية المختلفة، لدرجة أنه استطاع خلال فترة قياسية من تخطي العقبات التي كانت تعترض طريقه، وأن يشقّها بخطى ثابتة نحو النجومية، وأوجد له مكاناً متميزا في الحركة الثقافية الفلسطينية والعربية كباقي الكُتات العرب الآخرين.
أول من خطّ قلمه الطفولي قصيدته الأولى ” وعن الثورة الجزائرية بمناسبة تحرير الجزائر، أما القصيدة الثانية فكانت بعنوان” وجُنَّ الليل يا صاحبي” عام 1965م، ولم يتجاوزعمره (20) ربيعا بعد، وفي أول سنة له في السعودية، و نُشرت في ” مجلة الاسبوع العربي” في بيروت آنذاك، ركَّز فيها على الحنين للوطن، ومعاناة المغترب عن وطنه، ثم كثَّف من نشر إنتاجه الأدبي لدرجة أنه جعل القارئ يشعر بغزارته.
بعد جهد متواصل خلال الأعوام اللاحقة، استطاع بمثابرته وحرصه الشديدين أن يصدر ديوانه الأول”بعنوان” من شعر الثورة الفلسطينية” في عام1977م.
قصة هذه التسمية جاءت من “محمد حسن عواد” رئيس نادي جَدَّة الأدبي، الذي طبعه على نفقة النادي، فهو الذي غيَّر الاسم السابق”يا إبنة الكرمل” المقترح من “الريماوي”، حيث كان ” الريماوي” في تلك الفترة المسؤول الإعلامي في بعثة الحج الفلسطينية منذ عام 1976 في السعودية ، وقد تعرَّف رئيس النادي عليه هناك من خلال ابن عَم الريماوي” طلال عبد الرؤوف الريماوي” الذي كان يُحضِّر رسالة الماجستير، وقد اطلع رئيس النادي على قصائد الريماوي، وأعجب بها، وأصرَّ على طلبه ولقائه، وكانت هذه النتيجة اصدار الديوان الأول. أما ديوانه الثاني فكان بعنوان ” أنغام فوق سجن الكَبت” ، طُبع في دمشق في عام1979م، ثم توالت دواوينه الشعرية فيما بعد، مثل: ديوان”هلّت من صبرا عشتار” بعد شهرين من مذابح صبرا وشاتيلا 1982، و” لافتات على سياج الضوء ” عن الإنتفاضة الأولى ضد الاحتلال..إلخ.
هذا الديوان، هو السادس عشر، صادر عن دار” أمواج للنشر والتوزيع” بعمان في عام 2025 م، وسيتم اشهاره قريباً في مقر اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين، كما تم إرساله خلال شهر أيلول الماضي إلى أبو ظبي للمشاركة في مسابقة “جائزة الأمير زايد للكتاب”، كما يعكف الآن، على اصدار ديوانه الجديد السابع عشر بعنوان
” بِذار الشهداء وبيادر الأمل” من خلال دار” أمواج للنشر والتوزيع” أيضا، وما زال تحت الطباعة كما علمت.
لقد أهدى الدكتور أحمد ديوانه هذا – الذي جاء تصميمه بحلَّة قشيبة – إلى أرواح الشهداء بعامة، وإلى ارواح شهداء القدس بخاصة ، وإلى المرابطين ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وإلى كل إنسان يتخذ من الحُريَّة والسَّلام ضفتين لنهر حياته .
يعود سبب تسمية الديوان بـهذا الاسم، لأن القدس مهجة القلوب وقبلة المسلمين الأولى. أضف إلى ذلك، بأن عنوان أطروحة دكتوراة الشاعر كان” بيت المقدس في المشروع الصهيوني خلال القرن العشرين”.
يتكون الديوان من (142) صفحة من القطع المتوسط، ويحمل في طياته (17) قصيدة تمتاز بشعر التفعيلة وبعضها عمودية.
لجأ “الريماوي” لهذا الأسلوب انطلاقا من قناعته، بأن كل القصيدة في شعر التفعيلة، تعتبر بيت القصيد، بعكس الشعر العمودي الذي يتميز ببيت القصيد، وأقصد هنا، أن بيت القصيد في العمودية، هو أحسن بيت في القصيدة الذي يُعبِّر عن القصد والغاية. من الجدير ذكره، أن شاعرنا تأثر بشعر المرحوم “محمود درويش” وصار جزءا من خصوصياته لقربه من القلوب. عوضا عن أنه جاء منسجما مع ما يرغب في التعبير عنه داخل النصوص.
من خلال تجوالي في بستانه الشِّعري الأدبي هذا، وجدت أنه استخدم في أسلوبه الكثير من المحسنات البديعية لأجل إظهار مشاعره وعواطفه الجياشة، وبهدف التأثير في النفس البشرية، وزيادة كلامه جمالا وزخرفة لفظية ومعنوية، ولإحداث جرس موسيقي جاذب للانتباه، وإثارة للتفكير، وهذا يُبرز مدى مهارة الشاعر الأدبية، وسعة الثقافة.
ففي قصيدته بعنوان “هي القدس.. قافُ القلوب” وهي طويلة لكن اقتطف لكم منها، يقول:
هي القدسُ..قِمّةُ قافِ القَداسة
قُدسُ القوي القدير
قِطاف القرار القرير
قِطار قِباب القُصور
هي القدس..قُنوُ القُنوط..قُنوط القيام
هي القدس.. قطب القُطوب
لأقواسها القُزحيّة
قَدحُ قوافل قمحِ القصيد القشيب
هي القدس..
دُرة دال الدَّليلِ
هي القدُس..
دندنةَ الدَّهر، ديمومة الدَّهرِ
ديانةُ الدَّهر، ديباجة الدَّهر
ديست بدعسٍ يُداهم دَوحَ الدِّيار
دُجى يدلَهِمَّ..دمار دَبوبٌ
دمارٌ دَبوبٌ..دمارٌ دَبوب
هي القدسُ
قافُ القلوب
هي القدس
دالُ الدُّعاء الدَّؤوبِ
هي القدسُ
سينُ السَّلام السَّليبِ
هنا نرى، كيف وظَّف شاعرنا حرف “القاف” مجازا للإشارة إلى القلب نفسه كمركز ورمز للعقل، ومن المعروف أنه، عندما تتداخل قوة العقل مع قوة القلب تحدثا تغييرا في حياة الإنسان. أراد الشاعر هنا، إبراز مدى أهمية ومكانة القدس، التي تعتبر مصرِّفة القلوب، وتُغيرها من حال لآخر، لما لها من مكانة دينية هامة عند المسلمين لأنها مهوى قلوبهم كونها:
أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومكان إسراء ومعراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي مدينة الأنبياء، ومكان مقدس ورد ذكره في القرآن الكريم بأنها أرض مباركة، وتُعد مركزا دينيا وتاريخيا. كما لاحظت أن في شعرِه طلب الثبات على الإيمان لنصرة القدس السليبة.
أما في قصيدة” أفديك عكا”، أورد لكم بعضا منها، يقول:
سيغرِّد الحسون يوماَ
للذي غزفَ الحِدا
ستُردِّدُ الأوجاع فينا
أشغل الماضي الغَدا
إنِّي عذرتُكَ يا فَتّى
لا..لا عَليَّ بمن عَتا
ما جاءني لا..ليس إفكا
أنذا هنا..وقَّعت بالآهات صَكَّا
أصدرت بالنَّبضات شِكا
أرسلته “للمجد” يرفع هامتي
لحفيدتي “ريما” كنبت قصيدتي
ونسكتُ نبض تألُّمي نَسْكا
ومهرت بالدّم أنني أفديك عكّا
حبي لها لا..ليس شِركا
لِجمال عكَّا سِحره
لجلال عكَّا سِرُّه
قد فاح في الآفاق.. في الأعماق مِسكا
من يقرأ قصائده، يجد أن شاعرنا استخدم صورا فنية معمَّقة للفكرة، فضلا عن الرمزية التي بثَّ فيها مشاعره وأفكاره السياسية، وانحيازه إلى الواقع المعاش، والوضع الحقيقي مع تسارع الأحداث المعاصرة داخل الوطن الذي يئن من وطأت الاحتلال الصهيوني الكونيالي. إضافة إلى استخدامه للفعل الماضي الذي ساهم في سرد الذكريات والأحداث.
طبعا، هذا ليس غريبا عليه، لأنه يتأثرفي مجتمعه ويؤثر فيه ويواكب معاناته. لذلك، جاء شعره إنعكاسا لما يعانيه، مثله مثل شعبنا الرازح تحت نير الاحتلال. هذه إحدى دوافع اللجوء إلى شعر التفعيلة ليُعبِّر من خلاله عن الجانب النفسي ومشاعره بحرية، بهدف خلق شعور ورغبة لدى الإنسان بالحرية والاستقلال.
هذه القصيدة – التي اقتطفت منها- طويلة أيضا، نكأت جِراح الشاعر، وهاجه الشوق للوطن ولأحفاده، وقد جعل من اِسمَي “ريما والمجد” رمزا لكل أطفال فلسطين كأحفاد له الذين يواجهون إبادة الطفولة الفلسطينية البريئة حاليا. وقد ألقاها في مهرجان الشعر لملتقى الشعراء العرب في الدمام بالمملكة العربية السعودية.
اللافت في قصيدة” أغزة هاشم”، المتضمنة ثلاثة مقاطع خماسيّة من قصيدة جماعية، شارك بها الشعراء العرب في ملتقى الأدباء والمبدعين العرب، جاءت قافيتها متسلسلة للأبجدية العربية، بحيث كان كل شاعر عربي مشارك يختار حرفا منها، وعندما لاحظ الدكتور “أحمد الريماوي” عدم اختيار الشعراء لحرف الذال نظرا لصعوبته، اختاره هو، لإظهار مدى قدرته الثقافية والإبداعية، فكتب قصيدة عمودية بليغة مُقفّاة بحرف الذال، أكتفي بالمقطع الأول منها للدلالة على ذلك:
إليك أغزّة هاشم أصبو
إليك الرّجاء، وخير الملاذ
تجاوزتِ أيوب في صبره
وعلَّمت سيزيف سِرَّ المَعاذ
شهيدُك سطَّر في السِفر مجداً
وعرّى لـ نيرون سِترَ اللُّواذ
هو الشعر غزَّة عنك سَمِيٌّ
نديٌّ تجلَّى بثوب الرذاذ
هو الله ناصرُ غزَّة حُبَّاً
بسيف الدُّعاء..بنصلِ العِياذ
هنا، نلاحظ مدى إنعكاس قضية شعبه في شعره، و شدة تمسكه بها، وحرصه على إضفاء الهَمِّ الفلسطيني على رؤيته الشعرية، واحتلاله مساحة واسعة في العديد من: قصائده، ودواوينه، وكتبه التاريخية، عوضا عن تجربته التي عاشها من اقتلاع وتهجير، وإدراكه لمدى الظلم التاريخي الممتد الواقع على لشعبنا،.لهذا دائما يَحثُ على الثبات والصبر والأمل بالنصر. كما استخدم في قصائده، بعض الأفعال المضارعة للتعبير عن الأغراض الشعرية من: وصف لمدى صبر وتحمل، وتضحيات، وثبات، وشجاعة المقاوم الفلسطيني دفاعا عن الوطن، كما جاء استخدامها أيضا، للدلالة على وقوع الحدث في الزمن الحاضر.
كل من يقرأ شعره، يعرف أن شاعرنا متأثر بعشق المكان وحساسية التاريخ، وأصبحت عنده حالة شعرية تروي تاريخ معاناة الإنسان الفلسطيني في أرضه، لذلك استطيع القول، إن هذه الحالة الشعرية هي شعرية تاريخ وشعرية مكان وبينهما علاقة وثيقة مترابطة.
تعتبرأشعار “الريماوي” عبارة عن أنغام تفيض بالأغاني: للحريَّة، وللحياة، وللأمل، ولحتمية الانتصار، ولتمجيد الروح الوطنية، وتحدياً للاستسلام، والاحتراق، والطبيعة القاسية، والغربة، وما تعرض له من معاناة في حياته والعودة للانبعاث من جديد. هذه، تظهر جليا في قصائده التي نسجها بخيوط من معاناة شعبنا الفلسطيني الصامد. كما رسم خلالها الكثير من قيم المحبة، والحث على التعاون، والوحدة، وحب الوطن.
لقد جاءت قصائد الديوان كصرخات احتجاج ضد جرائم الحرب، وانتصارا للسلام العادل وسلام الروح.
لقد كتب قصائده بدموع الزيتون على لوح من طين فلسطين، وحمله معه إلى مغتربه بانتظار ” غودو ” السلام ليعود إلى حيث أرضه الأولى وسمائها الأولى، وأبجديتها الأولى، لأنه يعترف بملء نبضه في شعره بأن ينابيع شعره تتفجر أكثر فأكثر في أَحضانِ وطنه الأم.
هذا ليس غريبا على الشاعر، لأنه ولد في أحضان الوطن، وهنا تعلم، وبالرغم من اغترابه القسري عن الوطن بسبب النكبة الأولى، إلا أنه حمل قلمه وجعل كلماته صمصاما صارما للدفاع عن الهوية الوطنية وتعزيزها، والربيع الآتي، ومقاومة ورفض مظاهر الاحتلال، لدرجة لاقت كتاباته الشعرية والنثرية المتنوعة اهتماما واسعا من النقاد والقراء، وإجراء المقابلات، والحوارات الصحفية، والمشاركة في أمسيات شعرية، وندوات، ومهرجانات، واحتفالات، ومنتديات وملتقيات متعددة.
أتمنى لشاعرنا المزيد من العطاء، و الإبداعات الأدبية، والنثرية التي ترسم لوحات تحكي للأجيال اللاحقة عن واقع حياتنا المؤلم، وجرائم الإبادة التي يتعرض لها شعبنا الآن في ظل التخاذل العربي والإسلامي.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .