12:12 صباحًا / 9 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

رنين بشارات ، حين يتكلم الصدق بصوتٍ مسرحي ، بقلم : رانية مرجية

رنين بشارات ، حين يتكلم الصدق بصوتٍ مسرحي

رنين بشارات ، حين يتكلّم الصدق بصوتٍ مسرحيّ ، بقلم : رانية مرجية


منذ خمسةٍ وعشرين عامًا وأنا أتابعها كما يتابع المرء نبض قلبه، لا ليقيس الإيقاع، بل ليطمئن إلى أنّ الحياة ما زالت صادقة.


رنين بشارات ليست ممثلةً عادية. هي ظاهرة وجدانية نادرة، تخرج من الضوء لا لتسطع، بل لتدفئ.


في عالمٍ يفيض بالتصنّع، بقيت رنين واحدة من القلائل الذين جعلوا من الفنّ مرآةً للصدق، ومن الصدق فلسفة حياة.

ولادةٌ في الوجع، وبدايةٌ من التحدي

ولدت رنين في بيتٍ بسيط في يافة الناصرة، في مدينةٍ توازن بين الحنين إلى قرى سُلبت وأحلامٍ ترفض أن تُسلب.
كانت طفلةً تشبه السؤال: “لماذا لا يمكنني أن أقول ما أشعر به بصوتٍ عالٍ؟”


ذلك السؤال هو ما قادها إلى المسرح — إلى الفضاء الذي يسمح للصوت بأن يكون حرًّا، وللنَفَس بأن يخرج كما هو، بلا تزيين ولا خوف.
لكن الطريق لم يكن ممهّدًا.
حين أعلنت رغبتها في دراسة الفنون المسرحية، قوبلت بالدهشة والرفض.
كان على فتاةٍ فلسطينية أن “تفكّر بعقلها”، لا أن تُغامر بروحها.
لكنها اختارت المغامرة، وقالت لذاتها وللعالم:

«لما أبوي قال لا تمثيل… قلت بس تمثيل. يمكن كنت لازم أُرد عليه.»

ومنذ تلك اللحظة، لم تعد ابنةً لأسرةٍ فقط، بل ابنةً للحلم ذاته — للحريّة، وللإصرار على أن الكلمة حين تُقال بصدق، تُغيّر شيئًا في هذا العالم.

“أم منى”… المرآة التي كشفتنا جميعًا

عرفها الناس عبر شخصية “أم منى”، تلك المرأة التي بدت في ظاهرها كوميدية، وفي باطنها أكثر جدّية من ألف خطبة.
كانت “أم منى” تضحك لتُبكينا، تسخر لتُعرّينا، تروي الحكاية الشعبية لتقلب واقعًا اجتماعيًّا.
هي المرأة التي لا تخاف من قول “لا”، والتي تحوّل المطبخ إلى منبر، والضحك إلى ثورة.

في عروضها، لم تكن رنين تمثل فقط؛ كانت تُنصت.


تُعطي الجمهور حقّ الردّ، تُحاوره، تُشركه في المشهد، تُسقِط الحواجز التي صنعها المسرح الحديث بين المؤدّي والمتلقّي.


تجعل من الضحك وسيلةَ تطهير، ومن الكوميديا شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية.
في زمنٍ اعتادت فيه المجتمعات العربيّة أن تخشى صوت المرأة، جاءت رنين لتجعل منه موسيقى خفيفة، تُبهج وتُفكّر وتُربك في آن.

الفنّ كفعل إنسانيّ

لم تتعامل رنين مع المسرح ك “مهنة”، بل كفعل إنسانيّ، كامتدادٍ للحياة نفسها.
الفنّ عندها ليس أداءً، بل حالة من الصدق الداخلي، تمرّ عبر الجسد والصوت والدمعة.
ولذلك ظلّ حضورها مختلفًا — طبيعيًّا كالمطر، شفافًا كالنبع، صادقًا كالاعتراف.

في كلّ عملٍ أدّته، مهما كان بسيطًا، هناك أثر إنسانيّ واضح: دعمُها لزملائها، تشجيعها للجيل الجديد، احتضانها للمواهب الشابة.


هي لا تؤمن بالبطولة المنفردة، بل بفكرة “الفريق”، بفكرة أن المسرح لا يقوم على نجمٍ واحد، بل على قلوبٍ متآلفة تخلق معًا لحظة الحقيقة.


تقول دائمًا:

“الفنّ لا ينجو بالغرور، بل بالمحبة.”

وهذا ليس شعارًا، بل أسلوب حياةٍ تمارسه، كلّ يوم.

من الخشبة إلى القيادة

حين تولّت رنين إدارة مسرح “المحطة 57” في حيفا، لم تتغيّر ملامحها.
بقيت كما عرفناها: تضحك كثيرًا، تصغي أكثر، وتعرف أنّ الفنّ لا يدار من المكاتب بل من القلوب.
المسرح الذي تقوده اليوم ليس مبنىً من جدران، بل بيتٌ للناس.
تفتحه أمام الممثلين، والنساء، والأطفال، وكلّ من يشعر أنّ له شيئًا ليقوله.
تُعيد تعريف الإدارة الفنيّة لتكون فعل مشاركةٍ لا تسلّط، فعل إيمانٍ لا وصاية.

تحت قيادتها، صار المسرح بيتًا مفتوحًا للتنوّع، للحوار، وللجمال البسيط الذي لا يحتاج إلى تذاكر فاخرة كي يُلمس.
إنها تُعيد للمسرح جوهره: أن يكون حديقةً تُزرع فيها الأسئلة، لا منصّةً تُوزَّع منها الأجوبة.

جوهرها: الصدق والنقاء

ما أحببته فيها، وما جعلني أتابعها طوال ربع قرن، ليس موهبتها فقط — فالمواهب كثيرة — بل صدقها.
ذلك الصدق الذي لا يُدرَّس، ولا يُصنَّع، ولا يُشترى.
هو صدق الإنسان قبل الفنان، صدق النظرة والابتسامة، صدق اليد الممدودة للجميع.

ورنين — كما أعرفها — لا تعرف الحسد ولا التنافس المريض.
هي من النوع الذي يفرح بنجاح غيره، ويصفّق بحماس، ويمنح الثقة بلا خوف من أن يُنتزع منها الضوء.
هي تعرف أن النور الذي يأتي من الداخل لا يخفت حين يُشارك.

لماذا رنين بشارات “ظاهرة عالمية”؟

لأنها تتحدّث لغة الإنسانية، لا لغة الجمهور المحلي فقط.
من يراها على الخشبة، يدرك أنّ ما تقوله ينتمي لكلّ إنسانٍ عاش قهرًا أو حنينًا أو حبًّا.
لأنها تُعلّمنا أنّ الفنّ لا يحتاج إلى ترجمة حين يكون صادقًا.
رنين بشارات لا تمثّل المرأة الفلسطينية فحسب، بل تمثّل كلّ امرأةٍ تحاول أن تكون ذاتها في وجه مجتمعٍ يحاول أن يرسمها.

هي ابنة المكان والزمان، لكنها أيضًا ابنة العالم.
تُجسّد ما نحتاجه اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى:
الإنسان الصادق، القائد الهادئ، الفنان الذي لا يرفع صوته كي يُسمع، بل يرفع صدقه كي يُشعّ.

بين الجمهور والروح

السرّ في رنين ليس فقط في عروضها، بل في ما يحدث بعدها.
حين تنتهي المسرحية، لا يرحل الجمهور فورًا.
يبقون، يتحدّثون، يتأملون، يبتسمون.
وهذا هو الفنّ الحقيقي: حين يتحوّل العرض إلى حوار، والمسرح إلى مرآة، والفنان إلى صديقٍ للنفس.

لقد كسرت رنين الحواجز بين الممثلة والجمهور، بين الفنان والمجتمع، بين الفنّ والواقع.
جعلت الخشبة مكانًا للتلاقي، لا للتمايز.
وبهذا وحده، صارت أكثر من ممثلة: صارت ضميرًا يُذكّرنا بأن الفنّ ليس ترفًا… بل حاجة روحية، مثل الصلاة والماء والهواء.

خاتمة: إنسانة قبل أن تكون فنانة

رنين بشارات اليوم هي حديث الناس ، لا لأن الصحف تكتب عنها، بل لأن الأرواح تتناقل أثرها.
هي الفنانة التي أثبتت أن البساطة ليست ضعفًا، وأن اللطف ليس سذاجة، وأن الفنّ حين يُصنع بالحبّ، يصبح رسالةً خالدة.


هي الممثلة والمديرة والمعلمة والرفيقة، التي تُثبت كل يوم أن المرأة ليست ظلًّا، بل أصل النور.

أقولها بعد خمسةٍ وعشرين عامًا من المتابعة:


رنين بشارات ليست فقط صوت المسرح الفلسطيني، بل صدى الإنسانية فينا جميعًا.
هي الدليل أنّ الفنّ يمكن أن يكون صلاةً، وأن المسرح يمكن أن يكون بيتًا.
وفي زمنٍ يتناقص فيه الصدق، تبقى رنين بشارات — بابتسامتها، بضحكتها، بمحبّتها، بصدقها — الدليل أنّ الجمال لا يزال ممكنًا… وأن الإنسان، ما دام صادقًا، هو أعظم ممثلٍ على هذه الأرض

شاهد أيضاً

جبريل الرجوب

جبريل الرجوب يشارك في عمومية التضامن الإسلامي الرياضي والاتفاق على تشكيل فريق لدعم الرياضة الفلسطينية

شفا – شارك رئيس اللجنة الأولمبية الفلسطينية، الفريق جبريل الرجوب، في اجتماعيّ الجمعية العمومية للاتحاد …