
غازٌ في الشاحنات، ودخانٌ في الصدور، بقلم : د. سهير يوسف سحويل
أنين غزة الصامت أمام لهب السوق السوداءفي شوارع غزة التي أرهقتها الحروب والحصار، تُروى حكاية جديدة من حكايات الوجع اليومي، بطلها هذه المرة ليس صاروخاً غادراً، بل أسطوانة غاز الطهي التي باتت حلماً بعيد المنال. مأساوية تتجسد في مشهد الشاحنات التي تدخل القطاع محملة بالغاز، بينما 80% من البيوت لا تزال مواقدها باردة، وأهلها يعودون إلى بدائيات إشعال النار بالحطب، إن وجدوه.تدخل شاحنات الغاز ضمن المساعدات الإنسانية التي يُفترض أن تبلسم جراح الناس وتخفف من معاناتهم. لكن ما يحدث على أرض الواقع هو قصة أخرى تماماً. فما إن تطأ هذه الشاحنات أرض غزة، حتى يتبخر أمل المواطن البسيط في الحصول على حصته. الأسطوانة التي يفترض أن تكون مجانية أو بسعر رمزي، تُباع في وضح النهار في السوق السوداء بمبلغ يصل إلى 90-100 شيكلاً وأكثر، وهو مبلغ باهظ يفوق قدرة معظم الأسر المنهكة اقتصادياً.من المستفيد من هذا الجحيم؟هنا يطرح السؤال الأشد إيلاماً: كيف يمكن لسلعة أساسية، تدخل كجزء من مساعدات إنسانية، أن تتحول إلى أداة للاستغلال والتربح غير المشروع أمام أعين الجميع؟ لا يمكن لهذه التجارة أن تزدهر في العلن لولا وجود شبكة من المستفيدين الذين يملكون القدرة على احتكار السلعة، ومنع وصولها إلى مستحقيها، ثم فرض سعرها الجديد في سوق لا ترحم.إنها حلقة مفرغة من الفساد وسوء الإدارة، حيث تغيب الرقابة الفعالة، وتُستغل حاجة الناس أبشع استغلال. المواطن الذي نجا من القصف، وصمد أمام الجوع، يجد نفسه اليوم مطحوناً تحت رحمة تجار الأزمات الذين لا يرون في معاناته إلا فرصة لزيادة أرصدتهم. إن الشعور بالعجز والقهر يتضاعف حين يرى الأب أطفاله جائعين، ويرى أسطوانة الغاز تُباع على بعد أمتار منه بسعر لا يقوى على دفعه، وهو يعلم أنها كانت مخصصة له مجاناً.ما وراء الدخان: أثر نفسي واجتماعي عميقالأزمة أعمق من مجرد نقص في سلعة. إنها تمس كرامة الإنسان في الصميم. العودة إلى استخدام الحطب والنار البدائية لا تلوث الهواء فقط، بل تلوث الروح بإحساس بالهوان والعودة إلى عصور ما قبل الحضارة. الأمراض التنفسية التي تنتشر بين الأطفال والمسنين بسبب الدخان هي الثمن الصحي المباشر لهذه الأزمة. أما الثمن النفسي، فهو شعور مرير بالخذلان من كل من يفترض بهم حمايته ورعايته.في غزة، لم يعد الألم يقتصر على الخوف من عدو خارجي، بل امتد ليصبح صراعاً داخلياً مع من يقتاتون على وجع أهلهم. إنها مأساة شعب مطحون من كل الأوجه، تُسرق منه أبسط مقومات الحياة، ويُترك وحيداً يصارع من أجل لقمة عيش ودفء بسيط، بينما ثروته ومساعداته تُنهب أمام عينيه.ويبقى السؤال معلقاً في سماء غزة الملبدة بالدخان والحزن: إلى متى سيظل المواطن الغزي يدفع ثمن كل شيء، من الهواء الذي يتنفسه إلى النار التي يطهو بها طعامه؟ ومن سيحمي المستضعفين من أنياب من لا ضمير لهم؟ إنها صرخة مكتومة، تنتظر من يسمعها قبل أن يختنق الجميع، ليس فقط بالدخان، بل بالظلم والقهر.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .