أنفاس غير مرئية ، بقلم : ماتيلدا عواد

أنفاس غير مرئية ، بقلم : ماتيلدا عواد

المدينة بدأت قبل أن أستيقظ،
ولا أحد هنا ليسمع، إلا صدى خطواتي التي تُعيد ترتيب الفراغ.
الطرقات تتلوى، وكأنها تحاول أن تشرح لي شيئًا،
لكنني لا أفهم سوى أنني أتحرك معها،
أتنقل بين أزقة لم تُسكن بعد،
وحائطٍ يتنفس ببطء، يفتح فمه لكشف ضوء خفي.

أقف أمام نافذة بلا إطار،
أرى فيها وجوهًا لم تخلق بعد،
وعيونًا تعرفني أكثر من أي مرآة سبق أن شاهدتها.
أضع يدي على الزجاج،
فتشعر أصابعي بأن المدينة تنزف صمتًا،
صمتًا يتلوى بين الأصوات غير المسماة،
ويخفي نفسه خلف الهواء، كأن الهواء نفسه يحكي قصة.

هناك سلمٌ لا يصل إلى أي مكان،
أصعده ببطء، وكل خطوة تحوّل الماضي إلى مستقبل،
والمستقبل يعود ليصبح ذكرى،
فتشعر أنك تمشي على ضوء لا يلمسه أحد،
إلا عندما تصطدم بعينيك،
فتدرك أن المرآة التي أمامك ليست مرآة،
بل ابتسامة صغيرة اختبأت في زاوية قلبك.

أحيانًا تنكسر الأشياء بطريقة لطيفة،
كأنها لا تريد أن تكون أشياء،
فتسمع الضحكة في الهواء،
فتدرك أن كل شيء حولك يختفي،
لكنه لم يختفِ أبدًا،
بل أصبح أخف، أكثر قربًا، أكثر أنت.

أحاول الكتابة عن هذا المكان،
لكن الكلمات تتلعثم،
تتراقص على السطر،
تختفي بين السطور،
فتبقى دهشة خفية،
تطير بين جملتي وجملة القارئ،
كأن كل حرف يحمل سرًا لم يُكتشف بعد،
وكأن كل فراغ بين الكلمات هو المدينة نفسها،
والمدينة…
هي أنفاسك،
هي ضحكتك،
هي اللحظة التي تحبس فيها قلبك قبل أن يهرب.

ثم أركض بلا سبب،
أجد نفسي في شارع لم أره،
لكن كل شيء مألوف،
الظلال ترقص، والحجارة تتحدث،
والهواء يكتب اسمك على الجدران،
فتضحك المدينة بصوت خفي،
وتشعر أنك كنت تمشي فيها منذ الأزل،
وأن كل شيء حولك،
هو أنت تتكرر في شكلٍ آخر.

أجلس على الرصيف،
أغلق عيني،
أسمع المدينة تهمس باسمي،
كأنها تعرف ما أفكر به قبل أن أفكر فيه،
وتفتح أمامي نافذة جديدة،
لا تؤدي إلى الخارج،
بل إلى أعماق داخلي،
إلى أماكن لم أدخلها بعد،
فتجد نفسك تختفي،
ثم تعود أكثر وضوحًا،
فتقف للحظة،
وتدرك أن كل دهشة،
كل خفة قلب،
هي مجرد انعكاس لوجودك هنا، الآن،
في هذه المدينة التي لم تولد بعد،
ولكنك تعرفها أكثر من أي شيء آخر.