
“من طابور التفتيش إلى كرسي المكتب: رحلة العذاب اليومية للموظف الفلسطيني” ، بقلم : معروف الرفاعي
قبل أن تشرق الشمس، يستيقظ الموظف الفلسطيني من نومٍ لم يكتمل.
يمسح وجهه بماءٍ باردٍ لعلّه يطرد عن عينيه النعاس، ويهمّ بالخروج من بيته البسيط وهو يحمل في قلبه قلقًا يسبق خطاه.
لا يقلق من تأخره في أداء عمله، بل من الطريق إليه — تلك المسافة القصيرة التي تحوّلت في قاموس الاحتلال إلى رحلة عذابٍ طويلة، تُقاس بالساعات والدموع والصبر.
منذ اللحظة الأولى، يبدأ العدّاد النفسي للانتظار.
سيارة الموظف تتقدّم ببطء في طابورٍ طويلٍ من المركبات التي تصطفّ كأنها في جنازةٍ جماعية، جنازة الوقت والكرامة والإنسان.
كل سائق ينظر إلى ساعته بقلق، وكل راكب يتأمل في وجوه الآخرين بحثًا عن أملٍ صغيرٍ بأن الحاجز سيفتح قريبًا.
لكن لا شيء مؤكد.
القرار بيد جنديٍ صغيرٍ لم يتجاوز العشرين من عمره، يحمل سلاحه بيد، ويعبث بمصير المئات بيدٍ أخرى.
يصرخ حين يشاء، ويأمر حين يشاء، ويؤخر مرور الناس لأن مزاجه لم يصحُ بعد أو لأن “تعليمات أمنية” وصلت من الضابط المسؤول.
حين يحين دور الموظف، يخرج من سيارته بخطواتٍ حذرة.
يمدّ بطاقته الشخصية، ويمتثل لأوامر الجندي:
“افتح الصندوق الخلفي… أخرج ما في جيبك… قف هنا… ارجع هناك.”
يتفقد الجندي سيارته كما لو أنه يبحث عن سلاحٍ في حقيبة أوراقٍ رسمية، ثم ينظر إليه بنظرة شكٍّ متعمد، كأن وجوده ذاته تهمة.
يتصبب العرق من جبينه، ليس خوفًا، بل قهرًا.
كيف يمكن لإنسانٍ أن يعتاد الإهانة اليومية، وأن يبدأ يومه تحت فوهة بندقية، ويظل بعد ذلك قادرًا على أداء عمله بابتسامة؟
على الطريق، تمتدّ طوابير السيارات كأفعى من الحديد، تمتدّ لمسافاتٍ لا تُرى نهايتها.
طلبة المدارس يلوّحون بكتبهم من خلف النوافذ المغلقة، والنساء يحملن الأطفال المنهكين، والمرضى ينتظرون الفرج ليمروا إلى مستشفى أو موعد علاجٍ تأخّر كثيرًا.
كل دقيقةٍ تمرّ هناك هي حياةٌ مسروقة من زمن الناس.
وفي كثيرٍ من الليالي، يُغلق الحاجز تمامًا بحجة “حدثٍ أمني” في مكانٍ آخر، فيتحول الشارع إلى مخيم انتظار، ويبقى المواطنون في سياراتهم حتى ساعات الفجر، يبتلعهم التعب والبرد والخوف.
ما يجري على الحواجز ليس مجرد إجراء أمني، بل سياسة ممنهجة للعقاب الجماعي.
الطفل الذي يبكي من الجوع، والمرأة التي تنتظر مرورها لتلتحق بعملها، والمريض الذي يفقد أنفاسه على باب الإسعاف — كلهم ضحايا منظومة قهرٍ تُمارس تحت لافتة “الأمن”.
حواجزٌ تُغلق فجأة، بواباتٌ حديدية تُغلق على قرى بأكملها، وشوارع تُقطع لأيام.
في هذه اللحظات، يتحول الوطن إلى متاهةٍ من الأسوار والبوابات، وتُقاس المسافة بين القرى بعدد نقاط التفتيش لا بالكيلومترات.
وحده الموظف الحكومي، الذي يفترض أن يكون في مكتبه مع أول ساعات الصباح، يجد نفسه عالقًا بين سنديانة الحاجز ومطرقة الدوام.
يتصل بمسؤوله ليشرح سبب تأخره، فيتلقى نظرات اللوم الباردة.
كيف يشرح لهم أن وصوله إلى عمله معجزة يومية، وأن كل يومٍ يبدأ من الحاجز وينتهي بالحاجز، وأنه حين يعود إلى بيته مساءً، يقول له أطفاله بصدق:
“الحمد لله على السلامة.”
فإلى متى؟
إلى متى سيبقى الفلسطيني يمرّ بهذا العذاب اليومي؟
إلى متى سيبقى الحاجز سيفًا مسلطًا على حياة الناس، يُعاقبهم على مجرد الرغبة في العيش بكرامة؟
كم من الأحلام توقفت على بوابةٍ حديدية؟ وكم من المرضى ماتوا وهم ينتظرون الإذن بالعبور؟
إنها ليست قصة موظفٍ واحد، بل قصة وطنٍ بأكمله، محاصرٍ في الطرقات، ينتظر الضوء الأخضر من جنديٍ غريبٍ ليمرّ إلى يومٍ جديد.
ورغم كل هذا، يبقى الفلسطيني شامخًا — يذهب إلى عمله رغم الإهانة، ويعود إلى بيته رغم التعب، ويبتسم رغم الوجع، لأنه ببساطة لا يملك سوى أن يعيش… وأن يأمل.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .