1:58 مساءً / 27 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

قراءة أدبية لنص الهايكو “عازف الليل” بقلم الدكتور الناقد : عادل جوده

قراءة أدبية لنص الهايكو “عازف الليل” بقلم الدكتور الناقد : عادل جوده


عازف الليل
شدو القلوب المؤمنة،
تسبيح وجود!

عازف الليل
يهمس كالوتر الحزين،
أرواح المدن!
عازف الليل
تترجل روحها ذاكرته،
يتلقفها الشجن!

عازف الليل
على ضفاف الغيم،
نهر مندلق!
عازف الليل
ينتظر ما تركه العابرون،
عتبة المساء!
عازف الليل
موسيقاه، مطر هادئ،
يسير بلا أنامل!


فاطمة الفلاحي


قصيدة “عازف الليل” للشاعرة فاطمة الفلاحي تمثل نموذجاً شعرياً يتسم بالتكثيف الرمزي، واللغة الإيحائية التي تتسلل إلى الوجدان بصمت يشبه نغمة الناي في عتمة السكون.


إنها قصيدة قصيرة في ظاهرها، لكنها تنفتح على فضاءات واسعة من التأمل، تُلامس الميتافيزيقي والإنساني، وتستحضر الوجود من خلال نغمة واحدة تصدر عن “العازف” الذي يغدو رمزاً للروح الشاعرة، أو للإنسان الذي يعزف على وتر الحياة بين الأمل والوجع.


في البدء، يفتتح النص بعبارة متكررة “عازف الليل”، وهي تكرار متعمد يتخذ هيئة اللازمة الشعرية التي تشد البنية الإيقاعية والمعنوية للقصيدة.


هذا التكرار لا يؤدي وظيفة جمالية فحسب، بل يشكل أيضاً نواة رمزية تُحيل على وحدة التجربة الشعرية. فالعازف ليس شخصاً محدداً، بل هو كيان كوني، مزيج من الضوء والظلمة، من الحلم والذكرى، من الروح والحنين.
في المقطع الأول تقول:
عازف الليل شدو القلوب المؤمنة، تسبيح وجود!
هنا يلتقي الصوت بالمقدس، والموسيقى بالروح.
العزف يتحول إلى تسبيح، إلى فعل تأمل كوني يوقظ القلوب المؤمنة لتردد أنشودة الوجود.
العازف إذن ليس فناناً عابراً، بل هو رسول الجمال الذي يعيد للأشياء معناها عبر اللحن.
الليل بدوره ليس عتمة، بل مسرح تتجلى فيه الأصوات الخفية، حيث تنقلب الموسيقى صلاة، والوجود لحناً متواصلاً بين الأرض والسماء.
ثم تمضي الشاعرة لتقول:
عازف الليل يهمس كالوتر الحزين، أرواح المدن..


تغدو الموسيقى هنا لغة الأرواح لا الأجساد. المدن – في منظور الشاعرة – لم تعد أماكن مادية بل كائنات روحية أنهكها الضجيج والخذلان، تحتاج إلى من يهمس في ليلها كي تتذكر إنسانيتها. الوتر الحزين يصبح معادلاً شعرياً لحالة المدن الحديثة التي فقدت البساطة والصفاء، فصار لزاماً أن يأتي “العازف” ليعيد إليها نبضها المفقود.
وفي مقطع آخر تقول:


تترجل روحها ذاكرته، يتلقفها الشجن..


الروح هنا كأنها تنزل من عليائها لتسكن ذاكرة العازف، وكأن الموسيقى ذاكرة كونية تستقبل الأرواح وتحتفظ بآثارها.
تتماهى الذاكرة بالشجن، ويصبح العزف مرثية للحظات الغائبة وللأرواح التي عبرت الحياة كحلم.


في هذا المشهد تتجلى قدرة الفلاحي على تحويل الصورة الشعرية إلى لوحة مشحونة بالعاطفة والرمز في آن واحد.
ثم يطل المقطع الرابع:
على ضفاف الغيم، نهر مندلق!


تستعير الشاعرة مفردات الطبيعة لتصنع بها لوحة تجريدية.


“ضفاف الغيم” استعارة تتجاوز الواقع إلى الحلم، و”نهر مندلق” يوحي بتدفق المشاعر وانسكاب الإلهام.


العازف هنا لم يعد جالساً على الأرض، بل على حدود الغيم، حيث تمتزج الموسيقى بالفضاء، والمطر بالصوت. إنه مقام الكشف الشعري الذي يتوحد فيه الإنسان مع الكون.
في المقطع قبل الأخير، تقول:
ينتظر ما تركه العابرون، عتبة المساء!
تتخذ القصيدة هنا منحى تأملياً وجودياً.


العازف ينتظر آثار العابرين، أي بقايا الوجوه والذكريات والأنفاس التي تمضي في دروب الحياة دون أن تترك سوى صدى. عند “عتبة المساء” يصبح الانتظار تأملاً في الزوال، فالمساء رمز النهاية، لكنه أيضاً بداية أخرى، حيث العازف يتهيأ لعزف مقطوعة الفقد.


وأخيراً، تختم الفلاحي بنغمة هادئة:
موسيقاه، مطر هادئ، يسير بلا أنامل!
هنا تبلغ القصيدة ذروتها الجمالية.
فالموسيقى لم تعد تحتاج إلى آلة أو عازف، لقد تحولت إلى كيان مستقل، تمطر على الوجود بلا واسطة. المطر الهادئ رمز الصفاء والتطهير، والعزف بلا أنامل يدل على سمو التجربة إلى مرتبة الروح الخالصة التي لا تحتاج إلى الجسد كي تعبّر. إنها حالة الاتحاد بين الصوت والسكوت، بين الفعل والعدم.


من الناحية الفنية، تعتمد القصيدة على الاقتصاد اللغوي والتكثيف الدلالي، وتستند إلى صور مركبة تتجاوز المشابهة الحسية إلى الإيحاء الرمزي. الفلاحي تكتب بلغة شفافة تنبض بالإيقاع الداخلي، خالية من الزخرفة اللفظية، لكنها محملة بطاقة وجدانية عالية. الموسيقى الداخلية للنص تتولد من التوازي بين الجمل، ومن تكرار اللازمة “عازف الليل” التي تمنح النص وحدة صوتية تشبه نبضاً متواصلاً.


إن “عازف الليل” ليست قصيدة عن الموسيقى بقدر ما هي قصيدة عن الإنسان في لحظة تأمل كوني.


العازف رمز للروح التي تبحث في العتمة عن معنى الوجود، والليل مرآة تعكس ذلك البحث الهادئ بين النور والظلمة.
في نهاية المطاف، تغدو القصيدة تسبيحاً للجمال، واحتفاءً بالصوت الخفي الذي يسكن أعماق كل كائن حين يصغي إلى نداءه الداخلي.


تحياتي واحترامي

شاهد أيضاً

قوات الاحتلال تهاجم طلبة المدارس في الخضر جنوب بيت لحم

قوات الاحتلال تهاجم طلبة المدارس في الخضر جنوب بيت لحم

شفا – أصيب عدد من طلبة مدارس بلدة الخضر جنوب بيت لحم بالاختناق، اليوم الاثنين، …